أمد/ في ذاكرة الأجيال، يقف “عريف الصف” شاهدًا على أول دروس الحياة في السلطة والعدالة والخوف.
ذلك الطفل الصغير الذي كان المعلّم يختاره لحفظ النظام، لم يكن يدرك أن اسمه سيصبح رمزًا مبكرًا لعلاقة الإنسان بالسلطة، وللصراع الأزلي بين الحق والقوة.
حين يغادر المعلم الغرفة، يترك خلفه عالمًا صغيرًا يضجّ بالحياة والفوضى، ويضع “عريفًا” ليدير النظام.
اختيار بسيط في ظاهره، لكنه يحمل في جوهره أول امتحان للقيم التي سترافقنا حتى الكهولة.
الخيار الأول:
أن يكون “العريف” تلميذًا مهذبًا، صادقًا، يرى في العدالة شرفًا وفي الواجب مسؤولية.
يمسك الدفتر بثقة الطفل الذي لم يتعلّم بعد لغة المراوغة،
يسجّل الأسماء كما هي، لا يظلم أحدًا، ولا يخشى الحقيقة.
لكن حين يعود المعلم ويعاقب المشاغبين، يتحوّل العريف إلى هدفٍ لغضبهم.
ينتظرونه بعد الدوام، يوبخونه، يسخرون منه، وربما يضربونه.
يعود إلى بيته مكسور الخاطر، يحمل في قلبه أول جرحٍ من جراح العدالة.
يتعلم باكرًا أن الصدق وحده لا يحمي،
وأن العدل بلا قوة يُكسر،
وأن قول الحقيقة في مجتمعٍ يخافها هو أقصر طريقٍ نحو الألم.
وفي اليوم التالي، حين يسأل المعلم: “من يكون عريف الصف؟”
يخفض رأسه بصمتٍ، بعد أن فقد إيمانه بأن الإنصاف يصنع الأمان.
الخيار الثاني:
أن يختار المعلم أكثر الطلاب شغبًا، ذاك الذي يهابُه الجميع.
في لحظةٍ واحدة، يتحول “الازعر” إلى صاحب سلطة،
يمسك الدفتر كما يمسك الحاكم زمام الرعية،
يسجّل الأسماء كيف يشاء، يعاقب من يعارضه، ويُكرم من يخضع له.
يخيّم الصمت على الصف، ويبدو النظام متحققًا.
لكنّه نظامٌ قائم على الخوف، لا على الوعي.
هدوءٌ زائف يخفي تحته طغيانًا صغيرًا يتربّى وينمو في العقول.
والمعلّم، في غمرة رضاه عن الانضباط، لا يدرك أنه ربّى بأصابعه جيلاً سيكبر على أن القوة تُغني عن الحق،
وأن الظلم ما دام صامتًا يمكن احتماله.
وهكذا بدأت القصة.
من صفٍ صغيرٍ في مدرسةٍ ابتدائية،
نشأ جيلٌ يتعلم أن يخاف من الازعر،
وأن يسكت عن الحقّ كي يتجنب الأذى،
وأن يصفّق للظالم إن كان قويًا.
كبرنا، وتبدلت الأدوار،
لكن “عريف الصف” لم يغادرنا قط.
عاد بثيابٍ جديدة: موظفٌ متسلّط، مسؤولٌ متغطرس،
أو حاكمٌ يرى في الطاعة غايةً لا وسيلة.
وتكررت الحكاية نفسها،
فالمهذب يُقصى لأنه صادق،
والمتسلّط يُكافأ لأنه يُخيف،
بينما الصمت يزداد اتساعًا كظلٍّ يغطي الوجدان.
الحكمة من الحكاية:
ما ظنّه المعلم يومًا تدريبًا على النظام،
كان في حقيقته تمرينًا على الخضوع.
منذ الصف الأول، تشرّبنا الخوف من قول الحق،
وألفنا فكرة أن “السلام” لا يأتي إلا على حساب الكرامة.
تلك اللحظة البريئة التي سلّم فيها المعلم دفترًا لطفلٍ صغير،
كانت شرارةً أولى في صناعة جيلٍ
يتقن الصمت أكثر مما يتقن الشجاعة.
من الصف الأول بدأت الحكاية،
ومن هناك أيضًا يمكن أن تبدأ النهضة:
حين يتعلم الجيل الجديد أن العدالة لا تحتاج إذنًا من القوة،
وأن الكلمة الصادقة لا تُقال بخوف،
بل بإيمانٍ بأن الحق، مهما تأخر،
هو وحده الذي يستحق أن يُروى… وأن يُدافع عنه.
