مـا بعد رمضان؟

قال الله سبحانه وتعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: “أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل”.
بالأمس استقبلنا شهر رمضان، مجدين في الطاعات، من تلاوة للقرآن وسماعه، وقيام ليله، والتأدب بآدابه فلا زور في القول ولا عمل به؛ وها نحن نشارك على الخروج منه، فبماذا خرجنا؟ أبطهر ونقاء وصفاء، وبعزم صادق على الاستمرار والوفاء؟ أو أننا سنخرج بحال من ذمهم الله تعالى في كتابه (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) {وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به} أي أن حالهم قبل رمضان هي حالهم بعد رمضان، نعوذ بالله ممن حالهم هذه.
ما أجمل الطاعة إذا اتبعت بطاعة، وما أجمل الحسنة تتلوها الحسنة بعدها، وما أجمل الإحسان يتلوه الإحسان، والخير يتلوه الخير، قال الله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}، وقال سبحانه {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا}، وقال جل في علاه {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم}، قال أهل التحقيق من المفسرين “إن من علامات قبول الحسنة، أن تتلى بشكر صادق على التوفيق لها، وبعمل صالح مماثل لها”.
أيها الصائمون، يا من وفقكم الله لأنواع الطاعات، فتقربتم إليه في ليالي رمضان بأنواع القربات، محلقة بذلك نفوسكم مع عالم السماوات الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأنتم بصيامكم، وصلاتكم وتلاوتكم للقرآن، ووصلكم للأرحام، وإحسانكم واستغفاركم، وربما ومشاركتكم للذين عناهم الله تعالى بقوله {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود”، واصلوا سيركم إلى الله تعالى وتعاهدوا زرعكم، وحافظوا على ما وُفقتم له من طاعة الله والتأله به للفوز بمرضاته وحسن الوفادة عليه، وذلك بلزوم طاعته، والبعد كل البعد عن الاغترار بالعمل أو رؤية كثرته، فما هذا بنهج عباد الرحمن الراجين الفوز برضى الله تعالى، بل نهجهم هو ما بينه تعالى بقوله {والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقوا}.
ولئن كان فعل السيئة قبيحا فإنه يعظم قبحه وتشتد بشاعته إذا جاء بعد فعل الحسنة، فلئن كانت الحسنات يذهبن السيئات فإن السيئات يبطلن صالح الأعمال، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}.
ويا من سمت نفوسهم في رمضان إلى مقامات الصالحين، ونعمت بلذة مناجاة رب العالمين، حذار أن تهدموا ما بنيتم، وتبددوا ما جمعتم، وأن تصدوا قلوبا ونفوسا خلصت لله ونقيت وصفيت من لوثة العصيان بإعادتها إلى غفلتها وبعدها عن الله تعالى، فما أقبح النكوص على الأعقاب والالتفاف عن الله بعد ما أقبلت عليه تائبة من ذنوبها، راغبة في رحمته، خائفة من نقمته.
أخي الصائم.. بعد أن كنت في عداد الطائعين وحزب الرحمن، وأهلت للباس العفو والغفران، فاحذر أن تخلعه بالمعصية فتكون من حزب الشيطان، قال تعالى: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا}، وقال تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
قيل للعارف بالله تعالى وشيخ الجماعة ‘بشر بن الحارث الحافي’ رحمه الله تعالى: “إن قوما يتعبدون في رمضان فإذا انسلخ تركوا، قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان”، وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: “لا يكن لعمل المؤمن أجل دون الموت، وقرأ قوله تعالى {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}”.
فلنتق الله شيبا وشبانا، ذكورا وإناثا، أفرادا وجماعات، ولنراقب حالنا وما نحمله من زاد الطاعات والقربات، وما فرطنا فيه من الالتزام، فمن وجد خيرا فليحمد الله ويعمل على المزيد، ومن وجد في قلبه وجوارحه غير ذلك، فليتذكر أن المنون آتية في أية لحظة دون مقدمات، فبماذا سيلقى ربه جل في علاه. {إن الأبرار لفي نعيم وأن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين}.