أمد/  منذ بدء حرب الإبادة، يعزز الاحتلال الإسرائيلي شعار “كلٌ يأخذ بقوته”، ويدفع الناس إلى خيارين: السرقة أو الموت جوعًا.

في ظل غياب تام لأي سلطة أو أمن، برزت عصابات محلية مسلحة تسيطر على المساعدات وتعيد بيعها بأسعار خيالية.

لكن كيف وصلنا إلى هذا الانهيار؟ وكيف نجحت إسرائيل في ترسيخ ثقافة “البقاء مقابل النهب”؟

ما يجري ليس فوضى عشوائية، بل عملية ممنهجة لتفكيك ما تبقى من النسيج المجتمعي وتدمير السلم الأهلي. تغيب أية مبادرة وطنية حقيقية لحماية كرامة الناس وحقوقهم، فيما يُتركون وحدهم لمواجهة عدوان شامل بلا حماية.

المشاهد مرعبة، والأوضاع في قطاع غزة كارثية. الغارات الجوية والانفجارات الناتجة من القصف الإسرائيلي لا تتوقف، إذ تقع غارة جديدة كل دقيقتين أو أكثر شرق غزة وخان يونس منذ أكثر من أسبوع، مخلفة قتلى وجرحى.

الفقر والجوع يتصاعدان بشكل خطير، بينما تتدهور الأوضاع الصحية بسبب نقص الأدوية وتراكم النفايات وانتشار البعوض بشكل جنوني، ما يدفع الناس لقضاء ليالٍ كاملة في مكافحته. وخلال يومين فقط، من المتوقع نفاد الوقود الذي يغذي المستشفيات وسيارات الإسعاف والخدمات الأساسية.

الوضع الداخلي والمجتمعي يتدهور بوتيرة سريعة وخطيرة

يوم الأحد الماضي، ارتكبت قوات الاحتلال مجزرة جديدة في منطقة المواصي غرب رفح، عندما أطلقت النار من دباباتها على مواطنين كانوا يتوجهون لاستلام مساعدات من الجمعية الأميركية (جمعية غزة الإنسانية). أسفر الهجوم عن مقتل 30 فلسطينياً وإصابة أكثر من 179 آخرين.
وقبل ساعات من المجزرة، استولت عصابات على عشرات الشاحنات المحملة بالدقيق والسكر والمعكرونة والأرز في منطقة التحلية بخان يونس.

من المستفيد من هذه الفوضى وجرأة هذه العصابات؟

الوضع في غزة كارثي بكل المقاييس. القتل مستمر، والجوع ينهش الجميع، والفوضى والسرقة باتتا سمة يومية، بعضها منظم ومدعوم. مشاهد السطو على المحال التجارية والأسواق كما في سوق الصحابة ومفترق السرايا وسط غزة تتكرر. حتى المستشفى الميداني الأميركي في بلدة الزوايدة تعرض للنهب فجر السبت، ولم يترك اللصوص شيئاً، حتى مولدات الكهرباء.

هذا الانفلات الأمني لا يبدو عشوائياً، بل يعكس حالة فوضى مخططة. فلا وجود لأي جهة أمنية محلية قادرة على مواجهة العصابات المسلحة وجموع الناس، في حين يواصل الاحتلال استهداف ما تبقى من قوى الشرطة والأمن، ما يفاقم المخاوف من تفاقم الفوضى وامتدادها إلى بيوت المدنيين أنفسهم.

الناس ينتظرون قرارات عقلانية وسريعة من حركة حماس لإنهاء الحرب وحماية السكان وما تبقى من حياتهم.

فجر الجمعة الماضي، دخلت خمس شاحنات محملة بالأدوية والمستهلكات الطبية من معبر كرم أبو سالم إلى المستشفى الميداني الأميركي في الزوايدة. لكن بعد ساعتين فقط، اقتحم مسلحون برفقة مدنيين المستشفى ونهبوا محتوياته بالكامل من أدوية ومكملات غذائية حتى إطارات سيارات الإسعاف.

صور غير إنسانية باتت مألوفة. خلال الأيام الثلاثة الماضية، هُوجمت وسُرقت شاحنات مساعدات الأمم المتحدة فور وصولها عبر كرم أبو سالم إلى الطريق العام بين رفح وخان يونس. تعرضت 86 شاحنة محملة بالطحين والعدس والأرز والزيت لهجوم من عصابات منظمة وأشخاص جوعى، واندلعت اشتباكات تخللها إطلاق نار وسقوط قتلى وجرحى في صراع بين العصابات حول من ينهب أكثر.

مصير قطاع غزة اليوم معلّق بما تبقى من ضمير العالم وإنسانيته… وبكيس طحين.

وسط هذا الجحيم، يعاني الناس من الحصار والجوع منذ 95 يومًا. ومع دخول أول دفعة مساعدات قبل أسبوع، فرض الجيش الإسرائيلي مسارات محددة للشاحنات دون حماية، وقصف أي محاولة لتأمينها، ما جعلها فريسة سهلة للعصابات. وتم اختيار منطقة المواصي المزدحمة بالنازحين لمرور المساعدات، لدفع الناس الجوعى إلى مهاجمتها. إنها خطة مدروسة لنشر الفوضى بذريعة منع “حماس” من السيطرة على المساعدات.

يسيطر الاحتلال اليوم على نحو 80 في المئة من قطاع غزة، محولًا إياه إلى منطقة عسكرية خاضعة لأوامر الإخلاء والتهجير القسري. ومنذ 18 آذار/ مارس الماضي، كما ذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت”، دمر الاحتلال المنازل والمصانع والأراضي الزراعية، وفرض منطقة عازلة بعرض كيلومتر على طول القطاع، ومنع الصيد ودمّر القوارب.

إسرائيل تستخدم الجوع كسلاح حرب. فقد أصبح كيس طحين (25 كغ) يساوي حياة إنسان، إذ وصل سعره إلى 300 دولار، مقارنة بسعره الحقيقي البالغ 10 دولارات. كيلوغرام الطماطم بلغ 17 دولارًا، الملوخية 15، البطاطا 15، البصل 35، والبامية 45. كل هذا وسط تفشي الفقر، إذ يعيش 90 في المئة من سكان غزة تحت خط الفقر، ولا يملكون القدرة على شراء هذه المواد حتى لو انخفض سعرها قليلاً.

بعض المحللين الإسرائيليين يحذرون من أن الفوضى في غزة على وشك الانفجار، والسيناريو الأسوأ هو تحول الغضب الشعبي ضد قوات الاحتلال. إذا كُسر حاجز الخوف من “حماس” وتجاوز ليطال الجيش الإسرائيلي، فستجد إسرائيل نفسها أمام وضع غير مرغوب فيه. وهناك قلق كبير من أن مشاهد “الفوضى الصومالية” قد تفجر انتفاضة عالمية ضدها.

في غزة، بات توزيع المساعدات مصيدة للموت، كما وصفه المفوض العام للأونروا فيليبو لازاريني. نظام توزيع المساعدات الأميركيالإسرائيلي أجبر الجوعى على السير عشرات الكيلومترات إلى مناطق مدمرة تحت نيران القصف، فقط من أجل كيس طحين.

[21:14, 04/06/2025] مصطفى ابراهيم: لابد أن تكون عمليات إيصال وتوزيع المساعدات واسعة النطاق وآمنة، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بإشراف الأمم المتحدة، بما في ذلك الأونروا. كما يجب السماح لوسائل الإعلام الدولية بدخول غزة لتوثيق الحقيقة بعيدًا عن التضليل.

كان بالإمكان أن يكون الواقع أفضل، وأن يكون أقل مأساوية. لكن الوقت ينفد، والمواقف السياسية تدور في حلقة مفرغة. الورقة الأميركية الجديدة التي طرحها المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، ستيف ويتكف، ليست الأولى، وقد سبقتها مبادرات صيغت بعقل نتانياهو وروحه. ورغم ذلك، فإن رفضها دون النظر إلى الواقع ومآلاته يعيدنا إلى المربع الأول.

على حركة حماس أن تأخذ في الحسبان موازين القوى، والخيارات المحدودة، والمصلحة العليا للفلسطينيين في غزة، الذين يتعرضون للإبادة والتجويع. فإسرائيل لم تتخلّ عن هدفها: تفريغ غزة من سكانها، وتدميرها بالكامل، وتهجير أهلها.

مصير قطاع غزة اليوم معلّق بما تبقى من ضمير العالم وإنسانيته… وبكيس طحين.

شاركها.