مسالك حفظ كليات الضروري: حفظ كلي العقل
العقل أساس إنسانية الإنسان، وقوام فطرته، ومناط التكليف والمسؤولية فيه، وهو المحل الذي تنبجس منه حضارة الأمة، والضامن لعزتها وشهادتها على الناس، ومن هنا وجب على الأمة المحافظة على كل عنصر من عناصرها سليماً معافى في عقله؛ لأنه يمدها بالخير والنفع، من حيث هو جزء في نسيج نظامها، إذا اختل ذلك الجزء اختل نظامها بوجه ما، وبناء على هذا، يجب على كل عنصر من عناصر الأمة أن يعلم أن عقله ليس حقاً خالصاً له، بل للمجتمع حق فيه، وهو حق الله في عقله. ومن هنا وجبت المحافظة عليه، وعدم تعريضه للتلف؛ صيانة لحق الله فيه، ويتمثل ذلك فيما يلي:
حفظه من جانب الوجود
فالعقل في هذا الجانب محفوظ بما تحفظ به النفس بكونه جزءا منها وعنصرا من عناصرها، يستمد نموه وقوته من كيانها العام، تشاركه في ذلك الحواس كافة، وزيادة على ذلك، يحفظ بأداء فريضة التفكير التي تعدّ محركه في مسالك الاستمرار للإنتاج والعطاء، وتحصل هذه الغاية بتيسير سبل العلم والمعرفة وتوفير وسائلهما، وهذا واجب القائمين على مصالح الأمة، ومن هذا القبيل توفير القدر الضروري من العلم لكل فرد، حتى يستطيع إعمال عقله، ولو في ذلك المجال الضيق، وتصان بذلك قوة الإدراك لديه، وتؤمن مسالك فهم الدين والحياة والواقع عنده.
حفظه من جانب العدم
ويتحقق هذا الجانب بمنع تطرق الخلل إلى عقول المكلفين أفرادا أو جماعات؛ لأن ذلك يفضي إلى الاضطراب في تصرفاتهم وفقدان انضباطها، سواء كان ذلك بحسب الكل أو بحسب الجزء، ولذلك حرّم الإسلام تعاطي الخمر، وأقام الحدّ على شاربه زجراً للغير من الوقوع فيه، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} المائدة:٩٠. ومن شدة اعتناء الشريعة بحفظ العقول، حرمت قربان كل مسكر قليله وكثيره، فقد أخرج النسائي وابن ماجه وأبوداود والإمام أحمد في مسنده والدارمي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: “كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام”. وحسما لهذا الباب، منعت الشريعة كل السبل المؤدية إليه، وأبعد من هذا أن لعنة الله تلحق كل من يساهم في تسهيل تناولها وتوفيرها، قال صلّى الله عليه وسلم: “لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه”.
وإلى جانب هذا، فهو داخل في حرمة حفظ النفس من هذا الجانب كسائر أعضائها، ويقول الإمام الشاطبي في ذلك: “أما العقل فهو، وإن لم يرد تحريم ما يفسده وهو الخمر إلا بالمدينة، فقد ورد في الكليات مجملا؛ إذ هو داخل في حرمة حفظ النفس كسائر الأعضاء ومنافعها من السمع والبصر وغيرهما، وكذلك منافعهما، فالعقل محفوظ شرعا في الأصول الكلية عما يزيله رأسا كسائر الأعضاء ساعة أو لحظة”.
ومن وسائل حفظه أن يمنع ولي الأمر انتشار المذاهب الضالة وعلومها بين العوام، لما تفضي إليه من انحراف في التفكير والإخلال بمسؤولية العقل، وكذلك عدم الخوض به فيما هو منهي عنه، وفيما لا طائل تحته، ولا نتيجة ترجى من ورائه؛ لأنه تضييع لطاقته التفكيرية فيما لا يفيد، وكذلك رفع جميع وسائل الإكراه عن الأفراد من أجل إملاء نظام فكري معيّن، يقحمون في الخوض فيه إقحاما لا رغبة لهم فيه، ومن تمام حفظ العقل خوّل لولي الأمر تقدير عقوبة تعزيرية، أو غرامة مالية على كل من يعرض عقله للآفات التي تجعل وجوده عبثا، ويخرج بها عن دائرة التكليف والالتزام إلى دائرة الهرج والسلوك الفوضوي، ما يفضي إلى اختلال النظام العام، وانخرام حقوق الغير بحسب الجزء.
*رئيس الهيئة الشرعية
بمصرف السلام الجزائر