أمد/ ما سبب وجود مقر قيادة أمريكا المركزية لتنسيق جهود وقف إطلاق النار في غزة في مستوطنة، كريات غات، المستوطنة التي بنيت على أنقاض بلدة عراق المنشية الفلسطينية؟!

هل هي صدفة بحتة كما يظن كثيرون ممن لا يتابعون مجريات الأمور والأحداث في إسرائيل، ويقتنعون بالرواية المبثوثة في شبكات التواصل الاجتماعية؟ أو أن كريات غات هي الأقرب إلى حدود قطاع غزة الجغرافية، كما تدَّعى كثير من وسائل الإعلام؟ أم لأن لكريات غات مدلولاتٍ أخرى عديدةً، يجب أخذها بعين الاعتبار؟

نعم إن لكريات غات رموزا عديدة وظفتها إسرائيل في السابق لتشير بها إلى انتصار جيش إسرائيل على الجيوش العربية التي دخلت فلسطين لنصرة أهلها، كريات غات عند الإسرائيليين رمزٌ لانتصارها على جيوش العرب كافة، ولا سيما انتصارها على العرب عام 1948م وعلى توقيعهم اتفاقية رودس 1949م، إسرائيل تخلد انتصارها على بطولات الجيش المصري الذي كان يقوده اللواء سيد طه، أو الضبع الأسود في معركة الفالوجا، يوم 1331948م في عهد الملك فاروق!

لكريات غات رمزية أخرى هي المقصودة اليوم، فهي مدينة (اتفاقية أبراهام) التي كان بطلها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وطاقمه برئاسة زوج ابنته، جاريد كوشنر عام 2020م.

كان اسم الطائرة الأولى التي أنجزت اتفاقية أبراهام مع الإمارات العربية المتحدة، كريات غات، وكانت هي الرحلة التاريخية الأولى لاتفاقية أبراهام، كان اسم الرحلة المكتوب على سطح الطائرة، هو، كريات غات، وكانت تحمل رقم الكود الدولي للإمارات العربية المتحدة، رحلة رقم 971، هذه الطائرة حملت وفدين، أمريكي برئاسة جاريد كوشنر وطاقمه، بالإضافة إلى الإسرائيلي، مائير بن شبات مستشار نتنياهو ومستشار الأمن القومي وطاقمه، فهي رمز من رموز هذه الاتفاقية، ويبدو أن هذا الرمز هو السبب في جعل مدينة كريات غات رمزا متجددا لمقر القيادة المشتركة بين أمريكا وإسرائيل لتكون مركز قيادة عمليات مراقبة الأحداث في غزة التابعة مباشرة للرئيس، ترامب، غير أن نتنياهو ومعه طاقم حكومته اليمينية شعروا بالإهانة وهم يرون علم أمريكا فقط يرفرف على المقر، ولا وجود لعلم إسرائيل!

كذلك فإن لكريات غات مدلولاتٍ أخرى تشير إلى أنها المدينة الأكثر تطورا في إسرائيل فهي مدينة الألفية الثالثة، فهي في المراتب الأولى في صناعات التقنيات الرقمية، نجحت إسرائيل في تحويل المدينة من مدينة صناعية ومدينة زراعية، إلى مدينة تكنولوجية. بعد عام 1990، دخلت المدينة عالم السيلكون، وإنتاج الحواسيب، واستُحدثت فيها شركتان رقميتان كبريان بخاصة إنتاج (الفلاش ميموري)، وهو أهم المنتجات الضرورية في كل دول العالم وفي عام 2019، افتَتحتْ في كريات غات شركةُ، إنتل العالمية للحواسيب الإلكترونية، هي أولَ شركة عالمية، فأصبحت مدينة عالمية!

كريات غات جذبت إليها كثيرين، كان يسكنها في بداية تحولها طوائف السفارديم من ذوي الأصول الشرقية ممن يمتهنون الزراعة والصناعة، ثم استقر فيها عدد كبير من مهاجري روسيا، بعد أن تفكك الاتحاد السوفيتي 1990م، وهي المدينة التي انتقلت من عصر الصناعة والتجارة إلى عصر العولمة بسرعة فائقة!

الرموز السابقة كلها تشير إلى مستقبل اتفاقية غزة التي وقعتها حركة حماس ووافقت عليها أمريكا وإسرائيل بأنها ستكون ملائمة لمتطلبات الألفية الثالثة، فكريات غات ليست نهاية اتفاقية (أبراهام) التي تهدف لإحلال السلام في الشرق الأوسط، وإعادة بناء قطاع غزة، وإزالة حركة حماس من غزة، بل هي بداية مشروع كبير للاستمرار في إنجاز الاتفاقية الإبراهيمية بين إسرائيل وكل دول الشرق الأوسط والعالم، وما دمار غزة وتشريد سكانها سوى خطوة في هذا الطريق، قاد هذه المسيرة نتنياهو ودونالد ترامب!

أما القرية الثانية التي لها هدفٌ مماثل هي قرية، سيديه بوكر لها مدلولٌ ثانٍ يؤكد ما ذهبنا إليه في مدينة، كريات غات، فقد عُقد في منتجع، سيديه بوكر نفسها، مؤتمرٌ (إبراهيمي) ثان في أواخر شهر مارس 2022م حضره عدد من ممثلي الدول العربية المشاركة في اتفاقية (أبراهام) وبتنسيق أمريكي إسرائيلي محكم  حيث كان مهندس الاتفاق، وزير خارجية أمريكا الديموقراطي، أنتوني بلنكن، ووزير خارجية إسرائيل، يائير لابيد وامتنعت عن حضور هذا المؤتمر  دول عربية أخرى، وقد كان الموضوع المعلن عنه (إعلاميا) مواجهة الملف النووي الإيراني، وكيفية وقف التهديد الإيراني لدول المنطقة!

تقع قرية سيديه بوكر في صحراء النقب، فيها بيت، بن غريون، بيت فلاح صغير أقنعه، يهوشع كوهين مسؤول الحرس الخاص لبن غريون ليكون مقرا ريفيا جميلا لبن غريون وزوجته باولا، مع العلم أن يهوشوع كوهين كان المسؤول الأول عن اغتيال الوسيط السويدي، الكونوت برنادوت يوم 1791948م، وقد أشارت كتبٌ عديدة إلى أن بن غريون نفسَه كان من المحرضين على اغتيال برنادوت، بالتعاون مع اسحق شامير قائد منظمة الليحي الإرهابية، والذي أصبح فيما بعد رئيس وزراء إسرائيل، ليتخلصوا من استنتاجات واقتراحات برنادوت، بخاصة في مجال خطة برنادوت بتدويل القدس!

لم يقتصر تحريض بن غريون على اغتيال الكونت برنادوت فقط، بل وضع في منزله الحكومي في القدس خطة (دالت) عام 1949 في بيت بن غريون بالتعاون مع الجيش، لتمكين إسرائيل من السيطرة على الأماكن الحساسة في فلسطين وطرد السكان منها، وبخاصة الخليل وبيت لحم، وقد جرى الاتفاق على تشكيل وحدة عسكرية خاصة لتنفيذ الأوامر مكونة من ألف وخمسمائة جندي، وقد أسمى البرفسور، إيلان بابيه هذه الخطة بأنها تطهير عرقي!

لا يجب أن نغفل شغف بن غريون بصحراء النقب، فهي عنده المخزون الرئيس للهجرات اليهودية المقبلة، وهي لذلك تحتاج إلى تطوير لاستقبال عشرة القبائل اليهودية الضائعة منذ العصور الأولى!

لن أنسى قصة أخرى في عهد بن غريون وهي اغتيال البطل المصري الشهيد، مصطفى حافظ، وكان ذلك إنجازا كبيرا لحكومة إسرائيل ولبن غريون شخصيا!

كذلك جرى في عهد بن غريون إعدام المتهم الألماني، أدولف أيخمان، بعد اختطافه من الأرجنتين إلى إسرائيل عام 1960، ونُفذ فيه حكم الإعدام عام 1962م بتهمة انتمائه إلى التنظيم النازي ضد اليهود في الحرب العالمية الثانية!

ولا يجب أن يغيب عن ملف بن غريون ملف الطاقة النووية الإسرائيلية، فقد كان بن غريون شغوفا بتحقيق هذا الطموح، فقد أعلن قائلا: “الطاقة النووية هي السبيل الوحيد لمواجهة خطر الديمغرافيا السكانية العربية المحيطة بإسرائيل، وهي الضمانة الوحيدة لبقاء إسرائيل على قيد الحياة”!

إن معظم الساعين إلى إقرار الاتفاقية الإبراهيمية قد تأثروا جميعهم بكتاب (الشرق الأوسط الجديد، لشمعون بيرس الصادر عام 1994م، أو أنهم تتلمذوا على مبادئ الكتاب!

أنا أعتبر هذا الكتاب هو اللبنة الأولى لمشروع الاتفاقيات الإبراهيمية، قال في مقدمة كتابه: “علينا أن ننتقل من عصر اقتصاد الحروب، إلى عصر اقتصاد السلام، إذ أن الحروب لن تحقق الاستقرار النهائي”!

وهو يعترف بأن اتفاقية، أوسلو عام 1993م أرست القاعدة للتعاون الاقتصادي، فقد تبنى الإيطاليون فكرة قناة مائية لتوصيل البحرين، البحر الميت والأحمر، وتبنَّى النمساويون تطوير الكهرباء والمياه، أما البريطانيون اختاروا قطاع التجارة، أما الأمريكيون اختاروا المصادر البشرية، وتولى الكنديون ملف اللاجئين!

وهو يجيب على سؤال: كيف نبني شرق أوسط جديدا؟ وهو يجيب على سؤاله، بأن الحلول العسكرية لم تعد مجدية، يكمن الحل في الاقتصاد والعلاقات التجارية وتكنلوجيا المعلومات، ففي الشرق الأوسط 60 % من النفط، ولا بد من بناء تحالف اقتصادي على غرار دول السوق الأوروبية المشتركة (صفحة64)!

وهو يُلخص فكرته في جملة واحدة: “إن تأسيس منظمة تعاون تجارية شرق أوسطية هو البديل للتطرف، وهو المسار الصحيح لما بعد (القومية)!

هل تدمير غزة وقتل وتهجير ساكنيها سيكون مسارا جديدا لعصر شمعون بيرس، عصر ما بعد القومية؟!

شاركها.