أمد/ ما تشهده مخيمات شمال الضفة الغربية، ولا سيما في جنين وطولكرم ونور شمس، لا يمكن اختزاله في مشاهد الدمار، ولا توصيفه كإجراء أمني مؤقت. نحن أمام مشروع سياسيأمني متكامل، يستهدف تفكيك المخيم بوصفه شاهداً حياً على اللجوء الفلسطيني، لا مجرد حيٍّ سكني، وإعادة تعريف مفهوم اللجوء بالقوة، لا عبر القانون الدولي أو أي تسوية سياسية.

المخيم، في الوعي الجمعي الفلسطيني، ليس تجمعاً سكنياً مكتظاً فحسب، بل كياناً سياسياً قانونياً رمزياً. إنه الشاهد الحي على النكبة وجريمة التهجير القسري عام 1948، والاختبار اليومي لفشل الحلول المؤقتة التي تحولت إلى دائمة. ولهذا السبب تحديداً، ينظر الاحتلال الصِّهيو أمريكي الأنجلوسكسوني إلى المخيم باعتباره مشكلة بنيوية، لا تُحل بالضبط الأمني التقليدي، بل بالتفكيك الجذري.

الهدم والتجريف: من الاستهداف الأمني إلى إعادة الهندسة

خلال الاقتحامات المتكررة لمخيمات شمال الضفة، لم يعد الهدم وتدمير البنية التحتية أمراً عارضاً أو محدوداً، بل تحوّل إلى نهج منهجي ومقصود. أحياء كاملة دُمّرت، لا بذريعة وجود مقاتلين فقط، بل بهدف إعادة تشكيل البنية العمرانية ذاتها.

الشوارع الضيقة، التي شكّلت تاريخياً عنصر حماية اجتماعية وميدانية داخل المخيم، جرى تحويلها إلى شوارع واسعة مفتوحة، مهيأة لحركة الآليات العسكرية الثقيلة، وللمراقبة البصرية الدائمة، ولتفكيك النسيج العمراني المتداخل. هذا التحول ليس تفصيلاً تقنياً، بل قراراً سياسياً بامتياز؛ إذ يستهدف نزع أحد أهم عناصر قوة المخيم: تماسكه المكاني والاجتماعي.

الأخطر أن الاحتلال لا يكتفي بالهدم، بل يفرض شروطاً مسبقة لإعادة الإعمار. من بين هذه الشروط، غير المعلنة رسمياً لكنها متداولة سياسياً: عدم إعادة بناء البيوت التي دُمّرت على الشوارع التي جرى توسيعها، والقبول بهيكلية عمرانية جديدة فُرضت بالقوة، والتعهد بعدم العودة إلى الشكل السابق للمخيم. بكلمات أخرى: يُدمَّر المخيم، ثم يُطلب من الضحية التعهد بعدم إعادة إنتاجه.

تفريغ المخيم سكانياً… دون إعلان تهجير

إلى جانب إعادة الهندسة العمرانية، تُمارَس سياسة تفريغ سكاني ناعم. الطرح الصِّهيو أمريكي الأنجلوسكسوني المتداول لا يتحدث عن تهجير كامل، بل عن نقل نحو 50% من سكان المخيم إلى مساكن خارج حدوده، تُبنى بشكل متفرق وغير متقارب، بما يمنع تشكّل تجمعات بديلة تحافظ على الهوية الجمعية للمخيم.

الهدف واضح: تفكيك الكتلة البشرية، وكسر الاستمرارية الاجتماعية والسياسية للاجئين، دون استخدام مصطلح التهجير الذي يثير حساسية قانونية دولية. إنها عملية تفكيك تدريجي للجوهر، مع الإبقاء على شكل خارجي مفرغ من مضمونه.

الضغط على السلطة الوطنية الفلسطينية: من إدارة المخيم إلى إلغاء صفته

في قلب هذه العملية، تتعرض السلطة الوطنية الفلسطينية لضغوط سياسية وأمنية مكثفة، تهدف إلى دفعها نحو:

1. التعامل مع المخيمات كأحياء من المدينة.

2. القبول بالهيكلية العمرانية الجديدة التي فرضها الاحتلال.

3. تولّي المسؤولية الكاملة عن الإدارة والخدمات.

هذا التحول، إن تم، يعني عملياً إلغاء الصفة القانونية والسياسية للمخيم، وتحويله من فضاء لجوء مؤقت إلى حي دائم، بما يؤدي إلى شطب أحد أهم شواهد قضية اللاجئين. وقد عبّرت القيادة الفلسطينية، في موقفها الرسمي، عن إدراكها لخطورة هذا المسار، مؤكدة أن المخيم ليس مسألة خدمات، بل قضية سياسية وقانونية مرتبطة بحق العودة والتعويض وفق قرار الأمم المتحدة رقم 194. غير أن الإشكالية الحقيقية تكمن في الفجوة بين الموقف السياسي المعلن، والقدرة الفعلية على الصمود أمام الضغوط الميدانية والمالية المتراكمة.

 

استهداف الأونروا: إسقاط الشاهد قبل إسقاط الحق

لا يمكن فصل ما يجري في المخيمات عن الهجمة الشرسة على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). فالاحتلال يدرك أن الوكالة ليست مجرد مزوّد خدمات، بل شاهد قانوني على جريمة التهجير القسري، وتجسيد عملي للاعتراف الدولي بقضية اللاجئين، وعنصر استمرارية للهوية السياسية للمخيم.

من هنا يأتي الإصرار على استبعاد الأونروا من أي عملية إعادة إعمار، ونقل خدمات التعليم والصحة والنفايات إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، وإنهاء أي دور مستقبلي للوكالة داخل المخيمات. بمعنى آخر، تفكيك الأونروا عملياً، تطبيقاً لجوهر صفقة القرن الترامبية، رغم تجديد ولايتها حتى 30 حزيران/يونيو 202 9 بقرار أممي ساحق، صوّتت لصالحه 149 دولة، مقابل 10 دول عارضته، وامتناع 13 دولة عن التصويت.

الموقف الفلسطيني الرسمي باعتبار الأونروا خطاً أحمر لا ينطلق من اعتبارات خدمية، بل من الدفاع عن البعد القانوني والسياسي لقضية اللجوء. فغياب الأونروا لا يعني تحسين الإدارة، بل طمس الجريمة الأصلية.

الخلاصة: معركة على المعنى لا على الحجر فقط

ما تشهده مخيمات شمال الضفة هو معركة على المعنى: معنى المخيم، معنى اللاجئ، ومعنى الحق. فالاحتلال لا يكتفي بإدارة ما يسميه الخطر الأمني، بل يسعى إلى إعادة كتابة الرواية بالقوة، وتحويل المخيم من رمز سياسي إلى مشكلة بلدية.

في هذا السياق، يصبح الدفاع عن المخيم دفاعاً عن الذاكرة، وعن القانون الدولي، وعن مستقبل القضية الفلسطينية ذاتها. فحين يُفكَّك المخيم، لا يُهدم الحجر فقط، بل يُستهدف أحد آخر الأعمدة التي ما زالت تذكّر العالم بأن هذا الشعب لم يأتِ إلى هنا صدفة، ولم يبقَ لاجئاً عبثاُ.

شاركها.