{ما لكم كيف تحكمون}؟؟
ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين من أرذل الصفات التي يتصف بها الإنسان، ومن أخطر ما يُحارب به الحق ويُنصر به الباطل، ومن أشد ما يفسد العلاقات بين الناس؛ ولهذا حذر القرآن الكريم من الاتصاف به والعمل به تصريحا وتلميحا، قال تعالى مخاطبا الكفار، مُنبها إلى أن الكيل بمكيالين ضلال في التفكير وانحراف في الخلق: {ما لكم كيف تحكمون}؟!، وهذا سؤال استنكاري فيه تجهيل لهم، وتسفيه لعقولهم، مفاده: ماذا بكم؟، أي شيء حصل لكم؟، كيف تصدرون هذا الحكم الأعوج؟، وعلام تبنون أحكامكم؟، وكيف تزنون القيم والأقدار؟، وما الذي حدث لعقولكم، حتى يستوي في حكمكم من لا يستوون من الأشخاص، ويتعادل في ميزانكم ما لا يستوي من الأمور والقضايا؟!.
إن الأصل في الإنسان العاقل العدل النزيه أن تكون له قيم واحدة، ومبادئ واحدة، وقواعد واحدة، يلتزم بها وبنتائجها سواء كانت تلك النتائج في صالحه أم لا! له أم عليه!، وسواء مع أهله وأحبابه ومعارفه وقومه وحلفائه أم مع الأبعدين وأعدائه وخصومه وكارهيه!، هذا هو الأصل والفطرة، وهذا حكم العقل السديد!. بيد أن الإنسان كثيرا ما تفسد فطرته ويضل عقله، فردا كان أو جماعة أو مجتمعا فتطيش موازينه، وتختل معاييره، فتأتي أحكامه مجانبة للصواب، مخالفة للحق، معارضة للعقل والعلم!، ومن حاله هكذا يمكنه الرجوع للحق والصواب إذا نُبّه، وعُلّم، وأقيمت عليه الحجة. وإنما الداء العياء والمرض العضال والانحراف الخطير هو حين يصير الإنسان يسير بمبدأين أو أكثر، وبقيمتين أو أكثر، وبقاعدتين أو أكثر، وبتعاملين أو أكثر… يعامل من يميل إليهم ويواليهم وله علاقة بهم بمبدأ وقيمة وقاعدة، ويعامل من ينفر منهم ويعاديهم بمبدأ وقيمة وقاعدة أُخر!.
إن هذا المسلك من صميم النفاق، ومن أسوأ الأخلاق، وقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أن هذا المسلك المشين هو من أخلاق المنافقين، فقال عنهم: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين}، فهم يتعاملون بمكيالين، ويحكمون بمعيارين: يعرضون عن حكم الله ورسواه عليه السلام وهو الحق المبين إذا لم يكن في صالحهم ووفق أهوائهم، ويذعنون له ويخضعون إذا كان على حسب أهوائهم ويحقق مصالحهم، وهذا السلوك الملتوي، إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان.
وهو مسلك اليهود المفسدين أيضا كما أخبر الحق سبحانه عنهم: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}، هذا أسلوب مزدوج في معاملة الناس، يقضي بخديعة المخالفين والصدق مع المؤالفين، يأخذ المرء الأمانة وينكرها إذا كانت لرجل غير يهودي، ولكنه يرد الأمانة ويعترف بها إن كانت ليهودي!، فتكون الأمانة فضيلة مع اليهود وليست فضيلة مع غيرهم!، وكأن الأخلاق لها مقاييس متعددة ومعايير متنوعة!!، ويزيدون السوء سوءا حين يزعمون أن دينهم هو الذي يأمر بهذا الشنار والعار!، ولا يجد المرء ما يقول أمام هذا الالتواء والاعوجاج والتلون إلا: {ما لكم كيف تحكمون}؟!.
إن من اتصف بهذا البلاء (الكيل بمكيالين وتعدد المعايير) مِن الأفراد فسد وأفسد، ومن اتصف به من الجماعات أو المجتمعات أو الدول فسد وأفسد!. وللأسف هذا ما يعانيه الكثير من أفراد مجتمعنا، وهذا ما يعانيه المجتمع الدولي كله. ففي مجتمعنا كثيرا ما يكون اختلاف الناس الذي يؤدي إلى الشقاق والنزاع والتفرق سببه الكيل بمكيالين، واعوجاج التفكير، وعدم الخضوع للمبادئ والقواعد في كل الأحوال ومع كل الأشخاص بعيدا عن القناعات الذاتية، والأهواء الشخصية، والميولات الفردية، والخلفيات والحساسيات، وخير مثال على ذلك التعامل مع العلماء، حيث نجد كثيرين يسقطون العالم ويشنعون بمجرد أن يخطئ خطأً واحدا إذا لم يكن من طائفته أو جماعته، ولكن إن كان من طائفته وجماعته المرضي عنها، يقول لك: العالم غير معصوم، وهذا خطأ صغير قليل في بحر صوابه.. (ولحديث قياس!). هذا حال العلاقات في مجتمعنا، وهذا حال المجتمع الدولي أيضا، فأكثر ما يعانيه من الظلم والحيف وقهر الشعوب ولبس الحق بالباطل سببه الكيل بمكيالين وعدم الاحتكام إلى نفس المبادئ والقواعد في كل القضايا ومع كل الشعوب، ولا أدل على ذلك من موقف عامة دول العالم والغرب خصوصا من قضايا المسلمين عامة وقضية فلسطين خاصة، إذ يكفي أن نرى موقفها من الحرب في أوكرانيا حيث الكلام على الشرعية الدولية، وعدم شرعية احتلال روسيا لمناطق أوكرانية، وعلى حقوق الإنسان والمجازر، وعلى قدسية الحياة وقيمة دماء الأبرياء في أوكرانيا، فإذا صدموا بجرائم ومجازر الاحتلال الصهيوني وممارساته العنصرية مع أشقائنا الفلسطينيين نرى منهم تسوية بين المعتدي والمعتدى عليه!، وبين القاتل والمقتول!، وبين الظالم والمظلوم!، وبين صاحب الأرض والتاريخ وبين الوافد الذي غُرس بقوة الحديد والنار!، فلا يجد العاقل إلا أن يقول: {ما لكم كيف تحكمون}؟!.
إن الإصلاح يبدأ من الإنسان، هذه حقيقة بينة نكررها وسنكررها، وصلاح الإنسان يكون بصلاح روحه وعقله، وحتى نخرج وننجو من عموم حكم هذه الآية العظيمة: {ما لكم كيف تحكمون}؟!، لا بد أن نهتم بتكوين الأجيال اللاحقة وبنائهم فكريا، حتى يتلافوا هذا العاهات الفكرية، فيكون سيرهم في مجتمعهم على الجادة، وحتى يفهموا الحياة فهما جيدا، فلا يغتروا للكلام المعسل الذي يقطر سما، ولا يغتروا بالسياسات المدمرة التي تزينها الدعايات الكاذبة، وحتى يتوافقوا مع أنفسهم فلا يعيشوا ازدواجية المعايير، ولا الكيل بمكيالين، ولا يتعاملوا مع الناس، كل الناس، بوجهين، فـ«إن شر الناس ذو الوجهين، الذى يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه” رواه البخاري.
* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة