أمد/ يبدو أن منصب وزير الخارجية الأمريكي لم يعد يعبر عن مصالح الشعب الأمريكي أو يمثل سياسة خارجية مستقلة تتسم بالاتزان والمسؤولية الدولية ومن تابع التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو وهو يقف جنبًا إلى جنب مع بنيامين نتنياهو في قلب القدس المحتلة شعر بأن روبيو لم يأت ممثلًا للدبلوماسية الأمريكية بل ناطقًا رسميًا باسم حكومة الاحتلال وربما أقرب إلى كونه وزيرًا لخارجية إسرائيل من أن يكون حاملًا لحقيبة الخارجية الأمريكية التي من المفترض أنها تمثل مصالح دولة بحجم الولايات المتحدة وتخاطب العالم بمنطق القانون والمصلحة والأعراف الدولية لا بمنطق الاصطفاف الأيديولوجي والولاء الأعمى لكيان استعماري عنصري غارق في جرائمه في وقت لم تجف فيه دماء الفلسطينيين في قطاع غزة والأطفال والنساء والشيوخ المحاصرون يستغيثون بالعالم من بين الركام في خيام النزوح والشتات

 

روبيو اختار عن قصد  أن يذهب إلى الأرض التي تنهال منها القذائف لا ليطالب بوقفها بل ليؤكد مجددًا وقوف بلاده بلا مواربة إلى جانب الاحتلال بل ويذهب أبعد من ذلك حين يتبنى الخطاب الصهيوني العنصري بحذافيره وهو يهدد الدول التي تفكر بالاعتراف بالدولة الفلسطينية ويتوعدها برد إسرائيلي تحت مظلة الدعم الأمريكي المطلق وفي لحظة فارقة من مسار السياسة الخارجية الأمريكية التي تخلت رسميًا عن الحد الأدنى من التوازن وسقِط القناع الأخير عن وجهها وهي تعلن بشكل لا لبس فيه أنها باتت فعليًا جزءًا من أدوات الاحتلال إن لم تكن رأس حربته في المحافل الدولية والدبلوماسية

 

 وزير الخارجية الامريكي روبيو لم يترك أي فرصة للحياد أو التوازن بل انخرط كليًا في سردية الاحتلال مهاجمًا محاولات الاعتراف بدولة فلسطينية وواصفًا إياها بأنها تُقوّي حركة حماس وتعرقل السلام وهو نفس المنطق الذي تستخدمه حكومة نتنياهو لتبرير عمليات القتل والإبادة الجماعية وتشويه النضال الفلسطيني المشروع كما تحدث روبيو علانية بلغة لا تختلف عن أي مسؤول صهيوني محذرًا الدول التي تعترف بدولة فلسطين من رد فعل إسرائيلي غاضب وعنيف وبين أن أي خطوة أحادية في إشارة إلى الاعتراف بفلسطين ستشكل عائق كبير أمام التسوية رغم أن الاحتلال ذاته يمارس يوميًا خطوات أحادية من تهويد واستيطان واغتيالات دون أي رادع وقد بدا روبيو في تصريحاته منسجمًا إلى درجة التماهي مع الاحتلال وهو يهاجم المقاومة الفلسطينية ويتبنى خطاب تل أبيب ويتجاهلً السياق الحقيقي للصراع والمجازر اليومية التي ترتكبها إسرائيل في غزة وكأنه في مهمة دفاع مباشر عن الجيش الإسرائيلي

 

اللافت في اللقاء أن روبيو لم يتوقف عند الانحياز السياسي بل دافع أيضًا عن العدوان الإسرائيلي على الأراضي القطرية حين رفض إدانة الغارة الإسرائيلية على الدوحة التي أودت بحياة عنصر أمن قطري ومدنيين فلسطينيين واكتفى بالقول إنه ينظر إلى الدور البناء لقطر وهو تصريح منافق يعكس مدى استهتار واشنطن عبر روبيو بسيادة الدول وكرامة الشعوب طالما أن الأمر يتعلق بإسرائيل وفي ذات السياق ردد روبيو الحجج الواهية التي استخدمها سلفه بلينكن حين اتهم حركة حماس بالمسؤولية عن إطالة أمد الحرب وزعم أن الاعتراف الدولي بفلسطين يضر بالجهود الدبلوماسية في وقت لا تمارس فيه إسرائيل سوى الإبادة والدمار

 

 من المثير للاشمئزاز أن روبيو تحدث في المؤتمر عن تشجيع قطر على لعب دور بناء بينما كان نتنياهو بجانبه يتبجح بأن إسرائيل هي من قررت قصف الدوحة وأنها ستكرر ذلك إن تطلب الأمر وان هذه الازدواجية والانفصام الأخلاقي في الموقف الأمريكي ليست جديدة في الدبلوماسية الامريكية لكنها تتجدد الآن بوجه روبيو الذي يمشي على خطى بلينكن ويعيد إنتاج ذات الدور المشين الذي لعبه سلفه في خيانة مبادئ الإنسانية والتواطؤ مع الجريمة الصهيونية

 

الاخطر في تصريحات روبيو انها لا تمثل مجرد انحياز تقليدي لإسرائيل كما دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بل تعتبر انصهار تام في الموقف الصهيوني وتجاوزً للموقف الرسمي الأمريكي المعتاد حيث بدا الرجل وكأنه يقرأ من نص كتبه مكتب نتنياهو تماهى فيه كليًا مع الخطاب الإسرائيلي حول المقاومة والإبادة وبارك العدوان على غزة والدوحة ولم يتطرق ولو بجملة واحدة لمعاناة الشعب الفلسطيني أو للضحايا المدنيين أو لمأساة المجاعة في غزة بل كان جل تركيزه منصب على حماية إسرائيل وتبرير جرائمها واما تصريحاته حول إيران وحماس ومواقف الدول الأوروبية التي بدأت تعترف بدولة فلسطين فقد كشفت عن مدى خوفه من أي حراك دولي يعيد التوازن للصراع أو يكسر احتكار الرواية الصهيونية حيث تحدث في مؤتمر القدس عن زيادة جرأة حماس والانسحاب من الاتفاقات بينما كانت إسرائيل تمضي قدمًا في تنفيذ جرائمها اليومية دون رادع

 

معلوم بان روبيو خرج من عباءة اليمين الجمهوري المتطرف في أمريكا وقد دخل الآن رسميًا إلى معسكر أكثر تطرفً حين اختار تمثيل الاحتلال الإسرائيلي بدلًا من بلده حيث جاء خطابه متوافق مع الرواية الإسرائيلية وليس مجرد توصيف للصراع بل تحديد الجهة المسؤولة عن الدماء ولم يأتِ بأي إشارة إلى المجازر التي ترتكبها إسرائيل بشكل ممنهج ومفتوح منذ 7 أكتوبر 2023 بل جعل من  وجود حماس ككيان مسلح سببًا في كل ما يجري في المنطقة وأن إسرائيل ليست بحاجة لتقديم أي تنازلات بل انها تستحق أن تُكافأ وتدعم حتى وهي ترتكب الإبادة وتضرب الحلفاء وتحرج شركاءها

 

خطورة ما قام به روبيو لا يكمن فقط في اصطفافه السياسي بل في إعادة إنتاج مشهد بلينكن الذي كرس نفسه منذ اليوم الأول لحرب الإبادة على غزة كأكثر صوت داعم للاحتلال وأكبر شخصية دولية وقحة في تحميل الضحية مسؤولية المجزرة حيث كان يخاطب العالم لا بصفته وزيرًا للخارجية الأمريكية بل كيهودي صهيوني وهي ذات الهوية التي تتكرس اليوم مجددًا مع روبيو والذي إن لم يكن يهوديًا دمًا فهو متصهين سلوكًا وولاءً حيث يكرر ذات الأدوار ويعيد نفس الخطاب ويسير على خطى بلينكن بذات الدقة والانحياز بل ربما أكثر حماسة وتبعية فحين يهدد روبيو أوروبا من الاعتراف بفلسطين ويتحدث بلغة القوة لا الدبلوماسية ويشيد علنًا بضربة إسرائيلية غادرة نفذتها طائرات الاحتلال في قلب الدوحة فهذا لا يعني شيئًا سوى أن وزارة الخارجية الأمريكية باتت عمليًا امتدادًا لوزارة خارجية الاحتلال وأن صوت واشنطن في العالم ليس إلا صدىً لصوت نتنياهو وأجهزته الأمنية التي باتت تملك المنصة والمايكروفون الأمريكي في مجلس الأمن وفي المؤتمرات الصحفية الدولية

 

السكوت عما صرح به روبيو في خطابه المتطرف يشكل فضيحة أخلاقية وسياسية للإدارة الأمريكية الحالية التي يبدو أنها سلمت مفاتيح سياساتها الخارجية تجاه الشرق الأوسط لثلة من السياسيين المتصهينين الذين لا يرون في الفلسطينيين سوى عقبة أمام مشروع إسرائيل الكبرى وإذا كان بلينكن قد تعرض للنقد اللاذع في الداخل والخارج بسبب انحيازه الفج لإسرائيل فإن روبيو تجاوز هذا الانحياز إلى مستوى أخطر عبر شرعنته للعدوان وتبريره للانتهاكات واستهداف الدول الحليفة مثل قطر والتلويح بالعقاب للدول الأوروبية التي قررت الاعتراف بفلسطين في سلوك يعكس عقلية استعمارية متغطرسة لا مكان فيها للقانون الدولي أو حقوق الشعوب

 

المشهد الكلي للأحداث لن تكتمل صورته دون فهم السياق الأوسع لما جرى حيث لا بد من التذكير أن ما فعله روبيو هو امتداد لنهج أمريكي ثابت تصاعد منذ وصول ترامب إلى الحكم وتعزز أكثر مع سياسة بايدن التي وإن ادعت التمايز إلا أنها لم تكن يومًا سوى وجه آخر لذات العملة وان بلينكن كان قد سبق روبيو في تقديم أوراق اعتماده لنتنياهو وللمؤسسة الصهيونية في إسرائيل والولايات المتحدة حيث كان يتحدث عن المحرقة النازية وهو يبرر المحرقة الفلسطينية الجارية في غزة ويبكي على دماء يهود أوروبا وهو يوقع صفقات سلاح التي يقتل بها أطفال فلسطين ويدعي الدفاع عن القانون الدولي وهو يعاقب المحكمة الجنائية الدولية لأنها فكرت فقط في التحقيق بجرائم الحرب الإسرائيلية واليوم يكرر روبي ذات المشهد بذات الأدوات مع روبيو لكن مع قدر أكبر من الوقاحة والتبني العلني وضمن مناخ سياسي أمريكي بات يرى في إسرائيل شريكًا فوق النقد وحليفًا فوق القانون وامتدادًا ذاتيًا لمفهوم الأمن القومي الأمريكي

 

سياسة ماركو روبيو المكشوفة لا يمكن قراءتها بمعزل عن معرفة منظومة أمريكية كاملة باتت تتماهى كليًا مع المشروع الصهيوني خصوصا وان هذه السياسة لم تعد تكتفي بالدعم بل أصبحت تمارس أدوارًا مباشرة في القتل والتدمير والتضليل وان دعم واشنطن للاحتلال تجاوز حدود المال والسلاح إلى الدفاع العلني عن مجازره في المحاكم الدولية وعرقلة أي محاولة دولية لوقف إطلاق النار والتشكيك المستمر في أعداد الشهداء وشيطنة الضحية وتحريف الوقائع وتبييض جرائم الاحتلال وما كان لروبيو ولا لبلينكن من قبله أن يجرؤا على هذا الانحياز الفاضح لولا أن النظام السياسي الأمريكي بكامله من الكونغرس إلى البيت الأبيض بات أسيرًا للوبيات الضغط الصهيونية التي تحكم قبضتها على مفاصل القرار وتمنع أي نقاش موضوعي حول عدالة القضية الفلسطينية

 

خلاصة القول ان روبيو ليس مجرد سياسي متحمس لإسرائيل ولا امتداد لبلينكن بل هو عنوان لمرحلة سياسية أمريكية شديدة الخطورة يتجسد فيها فقدان الحياء السياسي والسقوط الاخلاقي الكامل في مستنقع الاحتلال وتحويل وزارة الخارجية الأمريكية من جهة دبلوماسية إلى جهاز ناطق باسم المشروع الاستعماري الإسرائيلي كما ان روبيو ليس فقط وزير خارجية في حكومة داعمة للاحتلال بل هو جزء عضوي من هذا الاحتلال يرى في دماء الفلسطينيين ثمنًا طبيعيًا لبقاء إسرائيل وفي الاعتراف بفلسطين خطرًا يجب منعه وفي الجرائم ضد غزة رسائل ضرورية وفي الوساطة القطرية مجرد ورقة ضغط لتحسين شروط الاحتلال لا لإنهاء المجزرة

 

مع هذا السياق لا بد من إعادة طرح سؤال جوهري حول كيف يمكن للولايات المتحدة أن تظل تُعامل كوسيط في عملية السلام بينما وزراؤها يعتلون المنابر في القدس لتمجيد جيش الاحتلال والدفاع عن غاراته على الدوحة والتهديد بالرد على أي اعتراف بفلسطين وكيف ايضا يمكن للبيت الأبيض أن يواصل الزعم بأنه يسعى للتهدئة بينما وزير خارجيته الجديد يقف إلى جانب نتنياهو ويصفق للعدوان وما يفعله روبيو اليوم لا يجب أن يمر دون فضح كامل لهذه المهزلة السياسية والأخلاقية لأنه يعري حقيقة النظام الأمريكي الذي بات بالكامل وبلا رتوش جزءًا من أدوات الإبادة الجماعية في فلسطين

 

ختامًا : إن ماركو روبيو وبلينكن ومن سيأتي بعدهما ليسوا سوى وجوه متعددة لنهج واحد يكرس التماهي والتطابق الكامل مع الاحتلال والانخراط العملي في جرائمه والتحول من دور الوسيط إلى شريك في الدم والدمار وهذه الحقيقة يجب أن تبقى حاضرة في كل تحليل سياسي وكل موقف أخلاقي وكل خطاب حر يسعى لنصرة المظلومين وإدانة المجرمين فالأسماء قد تتغير لكن الانحياز الأمريكي يبقى ثابت والتبعية لنتنياهو تبقى أقوى من كل القيم والمبادئ التي تتشدق بها أمريكا في أدبياتها وخطاباتها أمام العالم حيث بدأت الحملة العسكرية الاسرائيلي لاحتلال قطاع غزة

شاركها.