ماذا لو تواصلت ليالي البهجة في العاصمة طيلة السنة؟

أظهرت الإمكانيات المسخرة لإحياء ليالي الشهر الفضيل بالعاصمة، جانبا مميزا من الحياة الحضرية لمدينة الجزائر بعد أن أبانت عن تناغم بين الثقافة والترفيه والتجارة من جانب الأنشطة المتنوعة مثل المقاهي والمطاعم والأسواق الليلية، الفعاليات الثقافية والدينية والفنية التي تبقى مفتوحة حتى ساعة متأخرة من الليل، لتصبح ليالي العاصمة مليئة بالحياة والنشاط المتجسدة في الشوارع المكتظة، كديدوش مراد، والعربي بن مهيدي، وساحة الشهداء، وباب لوادي، والمسجد الأعظم، ومقام الشهيد، والواجهة البحرية… فماذا لو تواصلت حيوية ليالي العصمة طيلة شهور السنة، ليالي يختبر فيها الجزائريون الوجه الآخر لعاصمتهم بعد أن حولتهم حركة الازدحام نهارا إلى كائنات مضغوطة.
وساهم النقل العمومي في ربط أوصال مدينة الجزائر ببلدياتها ومد الجسور معها ليلا، بتسخير 82 حافلة بعد الإفطار عبر 74 خطا اعتبارا من الساعة الثامنة ليلا إلى غاية الثانية صباحا، منها استحداث خطوط ليلية تربط عددا من بلديات شرق وغرب ووسط وجنوب العاصمة، وأقطاب سكنية جديدة مثل حمادي ببومرداس وسيدي عبد الله بغرب العاصمة… بالجامع الأعظم.
وبات في وسع مواطني سيدي عبد الله، غرب العاصمة، أو حمادي شرقا، الوصول إلى قلب العاصمة مباشرة بعد الإفطار واختبار الأجواء الدينية الرمضانية في الجامع الأعظم، وحتى الاستمتاع بالعروض الثقافية المسرحية أو الفنية بقلب المدينة والعودة في أي ساعة حتى الثانية صباحا، والأمر ذاته بالنسبة للبلديات الواقعة بالضاحية الجنوبية، ليبقى الحد الأدنى للخدمة مضمونا يومي الجمعة والسبت، يقول أحد أعوان الشركة الوطنية للنقل الحضري وشبه الحضري.
عندما يتم تفعيل النقل العمومي
وفي تجربة لها تنم عن بداية انفتاح المؤسسة العمومية للنقل الحضري وشبه الحضري على التسويق السياحي في خطوة لتطليق الأطر القديمة الضيقة التي كانت تعمل بها، تعتزم فرض حضورها كلاعب فاعل في الترويج السياحي بتسخير حافلات (سيتي تور) اعتبارا من اليوم الثالث والعشرين (23) من شهر مارس الجاري؛ للقيام بزيارات مرفقة بدليل أو مرشد سياحي نحو المعالم التاريخية كالقصبة وما تزخر به من قصور، كقصر الداي حسين، وأخرى دينية كجامع كتشاوة وسيدي عبد الرحمان والجامع الأعظم، ضمن تنشيط الأمسيات الرمضانية والاستمتاع بأجوائها.
ورفعت مؤسستا (مترو الجزائر) و(سترام) للنقل بالترامواي، من جهتها، سقف خدماتها الليلية بتعديل رحلاتها لتواكب احتياجات المواطنين الراغبين في اكتشاف الأجواء الدينية عبر مساجد العاصمة، أو اكتشاف المراكز التجارية، أو الاستمتاع بالعروض الثقافية والفنية (سينما ومسرح وحفلات موسيقية..).
ففيما تبدأ خدمات المترو مباشرة بعد الإفطار إلى غاية الواحدة والنصف (1h30) صباحا، تشرع (سترام) في رحلاتها بالترامواي نصف ساعة بعد الإفطار إلى غاية (12h30) ليلا. سمح هذا الترتيب والتنظيم المحكم للنقل العمومي؛ بمد الجسور مع بلديات العاصمة وأصبح تدفق المواطنين سلسا على قلب العاصمة التي بدت في قمة هدوئها في غياب وسائل النقل الخاصة. تدفق الزوار كان يزداد من ساعة إلى أخرى عبر محطات المترو الترامواي، ومحطات ومواقف الحافلات في ساحات أول ماي والشهداء.
شوارع وساحات ومقاهي وأسواق عادت للحياة
إنه التدفق الذي أعاد الحياة للشوارع الكبرى وغالبية الساحات، كديدوش مراد، العربي بن مهيدي، حسيبة بن بوعلي، زيغود يوسف… ساحة أول ماي، ساحة موريس أودان، وصولا إلى ساحة البريد المركزي حيث تنظم سهرات على أنغام الشعبي.. ولامست بهجة ليالي رمضان ساحة بورسعيد (السكوار)، وساحة الشهداء وأنعشت الحركة التجارية في غمرة تهافت الناس على المتاجر والمراكز التجارية والاستعداد لاستقبال عيد الفطر، بل هي الحركة التي أعادت الروح للمقاهي والمطاعم وبيع المثلجات، وفتح عدد من سطوح بعض مباني المؤسسات المطلة على ميناء وخليج الجزائر، بل هي الحركة والحيوية التي أنعشت بعض الأسواق والفضاءات.
ففي حدود الساعة العاشرة ليلا، كانت سوق ساحة الشهداء التي ينشطها باعة الطرقات قد خنقت كل الممرات بكثافة زوارها وسدت منافذ الوصول إلى جامع كتشاوة، إنها الساحة التي يتقاطع فوقها التاريخ مع الدين والتجارة الفوضوية والفن، بعد أن تحول مقهى (مالاكوف) إلى وجهة لتنشيط حفلات على أنغام الشعبي تنعش أجواءها نسمات البحر الأبيض المتوسط، وتزداد الأجواء تلك جمالا كلما تقدمت صوب واحدة من أكبر الأحياء شعبية في العاصمة هو باب الوادي، أين تأخذ المأكولات الشعبية حقوقها الكاملة في العادات الدينية والثقافية، لاسيما الحلويات التقليدية، بل كانت مقاهيه مطاعمه وأسواقه في أوج نشاطها.
.. وللبحر نكهته الليلية
وللزائر أيضا أن يختبر ليل العاصمة في فضاء كيتاني المعانق لزرقة البحر المتوسط، الذي أصبح مثار إغراء للعائلات القادمة من عشرات الأحياء حتى بلديات أخرى، استجماعا لقوتها ورفع طاقتها بنسمات البحر.. إنه الفضاء الذي يرتقب أن يكتمل مع فضاء المسمكة بميناء الجزائر، ليشكل في المستقبل القريب الوجهة الأكثر جذبا واستقطابا للزوار في العاصمة، هي خليج الجزائر.
وفيما تعتبر حيوية هذه الليالي جزءا من التطور الحضري لمدينة الجزائر الذي يسمح لمختلف الفئات من مختلف الأعمار والخلفيات الثقافية بالتواصل والاحتكاك بعضهم ببعض، يتساءل بعض من أبناء ساحة الشهداء وباب الوادي عما إذا كانت الجهات المعنية بتسيير الشأن العام بالعاصمة؛ فكرت في الإبقاء على تسخير هذه الإمكانيات من وسائل النقل لمرحلة ما بعد رمضان، خصوصا وأن الحيوية التي عرفتها المدينة لقيت استحسانا من قبل الساكنة التي عثرت على ملاذها في التحرك على نحو مريح عبر بلديات الولاية.
الجامع الأعظم
كما أبانت الأجواء التي طبعت بهو المسجد الأعظم ومحيطه، عن الوجه الآخر للهوية الدينية التي أصبحت عليها العاصمة؛ إذ أصبحت الأجواء التي تخيم على ليالي المسجد عامل جذب بامتياز لآلاف الزوار، بينهم الأجانب في غمرة الأجواء المنعشة المفتوحة على نسمات البحر المتوسط، ما يجعله مقصدا سياحيا للزوار ليلا ونهارا.. يحدث ذلك في وقت أبانت فيه ولاية الجزائر عن قفزة في تحسين وجه بعض الشوارع والمحاور الكبرى بالإنارة العمومية.
بل إن ما وقفنا عليه في حدود الساعة العاشرة والنصف ليلا؛ أن المحيط الأمني (périmètre sécuritaire) للجامع تحول إلى نقطة استقطاب كبرى لآلاف الزوار في الواجهة البحرية المقابلة للمسجد. ويقول نسيم القادم من الدويرة، رفقة عائلته لشراء أغراض العيد من المركز التجاري (آرديس):
“أنا أقصد دائما هذه الجهة ليلا من الواجهة البحرية قبالة المسجد الأعظم، إذ يمكنك التسوق بشكل سلس بآرديس، وفي الوقت نفسه تستمتع بالمشي أو الجلوس بالقرب من شاطئ البحر..”. وساهم في صنع هذه الليالي الرائعة؛ الأجواء الآمنة عبر مختلف المراكز التجارية والمحاور والطرقات الكبرى التي تغطيها دوريات للشرطة.. وظلت حيوية ليالي العاصمة متوهجة بباب الزوار ومراكزها التجارية ومقام الشهيد، فيما كانت الأصداء المنعكسة من الرويبة، الدار البيضاء، الشراڤة، دالي إبراهيم… تشير إلى أن ليل رمضان يستهوي كثيرا من الزوار والفضوليين.
المدينة تكشف عن بهجتها..
فماذا لو تواصلت حيوية ليالي العاصمة إلى بقية شهور السنة؟ هذا السؤال طرحناه على بعض العارفين بالشأن السياحي والتنمية الحضرية ممن التقينا بهم قبالة المركز التجاري (آرديس)، بعضهم قال “إن التوجهات الحديثة للسياحة، خاصة في ظل تزايد اهتمام السياح بالتجارب الليلية التي توفرها العديد من المدن الكبرى حول العالم، في معظم العواصم السياحية الحديثة؛ أصبح النشاط الليلي جزءا أساسيا من تجارب الزوار، إذ يسهم في جذب السياح وتعزيز الاقتصاد المحلي..”، قبل أن يضيف آخرون “يمكن تفعيل ليالي العاصمة عبر تفعيل الثقافة المحلية بإقامة أنشطة ليلية وجولات تعرض وتعرف بمعالم المدينة بطريقة مميزة، فالليل هو فرصة لتعزيز التجربة السياحية في المدينة، كتنظيم مهرجانات موسيقية أو ثقافية تمتد إلى ساعات متأخرة من الليل..”.
والحاصل؛ أن ما لاحظناه أثناء جولتنا، أن حيوية ليل العاصمة كان جانبا مميزا من الحياة الحضرية لمدينة الجزائر، تعبر عن تناغم بين ما هو ديني وثقافي وترفيهي وفني وتجاري، على نحو خلق بيئة اجتماعية نابضة بالحياة وكشف عن فهم جديد لتعزيز الهوية المحلية للمدينة، والاحتفاء بالعادات والتقاليد الجزائرية، ما يدعو بالتالي لفتح أكثر لأبواب الفنون الشعبية والعروض المسرحية والموسيقية التي يفترض أن تعرض في المساء.
ويقود هذا الوضع إلى طرح تساؤل أكبر عما إذا كانت السلطات مستعدة لتفعيل ليل العاصمة إلى طول أشهر السنة لتجريب الوجه الآخر للحياة في العاصمة، الذي شكل نهارها مصدر متاعب لا متناهية للساكنة وللزوار من فرط الازدحام وحولهم إلى كائنات مضغوطة أشبه بعبوات ناسفة؟ وهل هي مستعدة لفتح مصالح إدارية ليلا لامتصاص الضغط عن العاصمة نهارا؟
إحياء السياحة الليلية..
يجيب بعض المهتمين بالتنمية الحضرية والسياحة، بأن إحياء العاصمة ليلا يجب أن يتم في اتجاه الاهتمام بالأنشطة السياحية والخدمات؛ كتطوير الفعاليات الثقافية والترفيهية بما يتناسب وخصوصيات المدينة، كتنظيم مهرجانات موسيقية دولية، وعروض مسرحية، وفعاليات ثقافية متنوعة، مثل مهرجانات السينما والموسيقى المحلية والعالمية، وعروض الفولكلور الشعبي، والفنون الشعبية عبر مناطق حيوية من المدينة كالقصبة أو الساحات العامة بما يوفر تجربة ثقافية متميزة.
إلى جانب إقامة أسواق ليلية تعرض الحرف اليدوية والمنتجات المحلية، والأطعمة التقليدية عبر الساحات العامة والواجهة البحرية والقصبة، على أن ترافق العملية جولات سياحية ليلية لزيارة المعالم الشهيرة، كالقصبة، ومقام الشهيد، وجامع الجزائر، وكتشاوة، ومتاحف.. ويمر ذلك، حسبهم، عبر توسيع شبكة النقل العام وتوفيرها على مدار 24 ساعة، كالحافلات، والمترو، والترامواي، والمصاعد الهوائية، على نحو يعزز تجربة الزوار، مع دعم قرارات فتح المطاعم والمقاهي ليلا في الأماكن الحيوية، كالواجهة البحرية والشوارع الشهيرة للاستمتاع بالأجواء المحلية، وتنظيم عروض ترفيهية ليلية للعائلات، كمسرح العرائس، والسينما المفتوحة والترويج للعاصمة الجزائرية كوجهة سياحية ليلية في الأسواق العالمية من خلال الحملات لترويجية على الانترنيت.
والحاصل؛ أن الجزائريين نسوا أن واحدة من أبرز امتدادهم، هو امتدادهم في حوض البحر المتوسط بعد أن تم نسيانه وتم الانكفاء على ثقافة جد محلية محدودة، مع أن كثيرا من اء الأجانب صنفوا العاصمة الجزائرية في مكانة امتيازية متقدمة قبل عواصم أوروبية؛ بل وتقول مراجع تاريخية: إن مدينة الجزائر كانت حتى قبل دخول الاستعمار الفرنسي مدينة ثقافية علمية تجارية لها سمعة عالمية.
عواصم لا تنام
لأجل ذلك، كان يفترض تفعيل الحياة الليلية للعاصمة لجعلها عاصمة تستعيد مكانتها ضمن بلدان البحر المتوسط، كعاصمة (كوسموبوليتية)؛ أي عاصمة عالمية، ولو أن مخطط التهيئة العام لمدينة الجزائر في أفق 2030 يرتب لجعل المدينة من بين (الخمس المدن الأولى في المتوسط) Top 5)).
فالعاصمة كان يفترض ترقية حياتها الليلية على نحو ما هي عليه باريس، وبرلين، ومدريد، وأمستردام ولندن… الرياض، وبيروت، ودبي، وكيب ثاون (جنوب إفريقيا)، ولاغوس (نيجيريا)، ونيروبي (كينيا)، ودار السلام (تنزانيا)، أبيدجان (كوت ديفوار)، ومابوتو (موزمبيق)، خصوصا وأن مدينة الجزائر تنفرد بخصائص معمارية ومعالم تاريخية دينية وثقافية وشريط ساحلي.