أمد/ انعقد في العاصمة التركية أنقرة مؤخرًا ما عُرف بـ “مؤتمر فلسطينيي الشتات”، في محاولة لإعادة إنتاج خطاب سياسي عاطفي، يوحي بأنه المدافع عن الهوية والحقوق، بينما تكشف القراءة التفصيلية لطبيعة المؤتمر وخطابه وتمويله وبيانه النهائي، أنه حدث هامشي، محدود التأثير، منقطع الصلة بالواقع السياسي والقانوني الذي يعيشه الشعب الفلسطيني.
وفي الوقت الذي تخوض فيه فلسطين معركة قانونية دولية غير مسبوقة ضد الاحتلال في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية والمنابر الحقوقية العالمية، يطلّ هذا المؤتمر ليطرح نفسه “عنوانًا تمثيليًا بديلاً”، في تناقض مباشر مع روح القانون الدولي، ومع جوهر وحدة التمثيل الوطني الذي يشكّل حجر الأساس لأي حركة تحرر.
التمثيل الشرعي… المرجعية التي لا يمكن القفز عنها
منذ عام 1974، حسمت الأمم المتحدة، عبر القرارين 3236 و 3237، مسألة من يمثل الشعب الفلسطيني، حين اعترفت صراحةً بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
هذه العبارة ليست شعارًا سياسيًا، بل هي تعريف قانوني ملزم، يمنح المنظمة الأهلية الكاملة للتحدث باسم الشعب الفلسطيني أمام العالم، ويجعلها المرجعية الحصرية في أي إطار سياسي أو تفاوضي أو قانوني.
وبما أن فلسطين ما تزال “شعبًا تحت الاحتلال”، فإن القانون الدولي يُلزم بوجود ممثل واحد موحد، منعًا لتفكيك القضية وتمزيق عنوانها السياسي، ومنع الاحتلال من استثمار التعدد لتهربه من التزاماته القانونية.
من هنا، فإن أي مؤتمر أو تجمع أو منصة، مهما ارتفعت شعاراتها، لا تملك شرعية تمثيلية خارج إطار منظمة التحرير. وبطبيعة الحال، فإن “مؤتمر أنقرة” لا يستوفي أيًّا من شروط التمثيل أو التفويض، ولا يستند إلى مرجعية انتخابية أو توافقية أو شعبية.
تمويل غامض وخطاب مرتفع… دون قاعدة شعبية أو مؤسسية …
لم يعلن المؤتمر عن مصادر تمويله، ولا عن الجهات التي وقفت سياسيًا وراء تنظيمه، ما يثير أسئلة تتكرر مع كل “مؤتمر موازٍ” يُعقد خارج فلسطين.
ومع انتشار تقارير تشير إلى ارتباط بعض المنظمين بـ حركة حماس أو دوائر قريبة من جماعة الإخوان المسلمين، يصبح من المشروع التساؤل: هل الهدف هو خدمة الشتات الفلسطيني، أم خلق منصات سياسية موازية للمنظمة والسلطة؟
فالتمويل غير الشفاف، والحضور المحدود، والغياب شبه الكامل لمؤسسات الجاليات الفلسطينية الحقيقية، كلها مؤشرات على أن المؤتمر تحرك سياسي دعائي لا يتجاوز مجموعات صغيرة، لا تمتلك لا حجم الشتات ولا وزنه ولا مؤسساته الفاعلة عبر قارات العالم.
بيان فضفاض… ومفارقة مع واقع غزة …
البيان الختامي جاء على شكل سردية خطابية مرتفعة، تمتلئ بالكلمات الكبيرة واللغة العاطفية عن المقاومة والعودة والحقوق. غير أنه بدا فارغًا من أي رؤية سياسية عملية، ومفصولًا نهائيًا عن الواقع، خاصة تجاه الكارثة الإنسانية والقانونية التي يعيشها قطاع غزة منذ العدوان الأخير.
تجاهل البيان مسؤوليات الفاعلين في غزة، ولم يقدم أي مقاربة لحماية المدنيين، أو صون النسيج الاجتماعي، أو توظيف التضامن الدولي القانوني والأخلاقي المتصاعد.
وبينما واصل التشدق بالمقاومة، فإنه تفادى تمامًا نقد الأداء أو دراسة نتائجه أو مراجعة التجربة، ما يكشف أن الهدف ليس حماية الشعب، بل استثمار العناوين الكبرى لخدمة خطاب سياسي محدد.
عداء للسلطة ومحاولة التفاف على منظمة التحرير،
من أخطر ما جاء في المؤتمر هو الهجوم المباشر على السلطة الوطنية الفلسطينية، بالتوازي مع استخدام اسم منظمة التحرير بطريقة انتهازية: يدّعون “الالتفاف حولها”، بينما يعملون في الجوهر على إضعافها وتفريغها وإنتاج بديل لها.
هذا السلوك ليس خلافًا سياسيًا مشروعًا، بل اعتداء على جوهر الشرعية الوطنية.
فالتعددية الديمقراطية ممكنة داخل البيت الوطني، لكن البدائل التمثيلية خارج المنظمة تمسّ مباشرة الحقوق السياسية والقانونية للشعب، وتضر بقضيته أمام المجتمع الدولي.
في لحظة المعركة… يظهر العبث
يخوض فلسطينيو العالم اليوم معركة قانونية كبرى ضد الاحتلال:
إثبات جرائم الإبادة في محكمة العدل الدولية
ملاحقة مجرمي الحرب في الجنائية الدولية
تعزيز المحاسبة عبر الآليات الحقوقية الدولية
وفي ذروة هذه المواجهة، يأتي مؤتمر كهذا ليقدّم للاحتلال ما يريد سماعه:
شعب بلا وحدة، وقيادات متناحرة، وتمثيل متعدد، وصوت منقسم…
وهي صورة لطالما استخدمتها “إسرائيل” لتبرير تهربها من الحل السياسي، وللتشكيك بشرعية المطالب الفلسطينية، ولإضعاف قدرة منظمة التحرير على مخاطبة العالم بصوت واحد.
نهاية نقول: الشرعية ليست ورقة… والتمثيل ليس مزادًا
الطريق إلى حماية الشعب الفلسطيني، والدفاع عن قضيته، لا يمر عبر مؤتمرات هامشية تُعقد بلا تفويض، وبلا صفة، وبلا وزن.
بل يمر عبر:
إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير باعتبارها المرجعية الشرعية الوحيدة
إصلاح مؤسساتها وتحديث هياكلها
إشراك الشتات ضمن أطرها الرسمية
وتوحيد النظام السياسي على أساس برنامج وطني جامع
إن التمثيل القانوني ليس شعارًا، بل حائط الدفاع الأخير عن الحقوق الفلسطينية. وأي محاولة للقفز عنه أو الالتفاف عليه هي إساءة للشعب، وخدمة مجانية للاحتلال، وتفريط بأهم مكسب حققه الفلسطينيون على مدى عقود:
وحدة التمثيل… ووحدة الصوت… ووحدة القضية.
