ليلة القدر.. التمسوها في العشر كلّها وليس في اللّيالي الوترية فقط!

من المعلوم أن ليلة القدر أخفيت في ليالي رمضان حثا للمؤمنين على طلبها في كل الليالي، ودفعا لهم للاجتهاد في العبادة، ومن المعلوم أيضا فضلها العظيم الذي أظهره الله قرآنا يُتلى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر}، وأكدته أحاديث شريفة كثيرة كقوله عليه الصلاة والسلام: «من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه البخاري وغيره.
لكن اختلف العلماء اختلافا كبيرا في تحديد هذه الليلة، ومجمل هذا الخلاف لخصه الإمام ابن الجوزي بقوله: “اختلف العلماء هل ليلة القدر باقية، أم كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة؟ والصحيح بقاؤها. وهل هي في جميع السنة، أم في رمضان؟ وفيه قولان: أحدهما: في رمضان، قاله الجمهور والثاني: في جميع السنة، قاله ابن مسعود واختلف القائلون بأنها في شهر رمضان هل تختص ببعضه دون بعض؟ على قولين: أحدهما: أنها في العشر الأواخر، قاله الجمهور، وأكثر الأحاديث الصحاح تدل عليه… واختلف القائلون بأنها في العشر الأواخر هل تختص ليالي الوتر دون الشفع؟ على قولين: أحدهما: أنها تختص الأفراد، قاله الجمهور. والأحاديث الصحاح كلها تدل عليه. والثاني: أنها تكون في الشفع [الليالي الزوجية، ليلة اثنين عشرين، ليلة أربع وعشرين… إلخ] كما تكون في الوتر، قاله الحسن”.
وهذا القول الأخير الذي قال به الحسن البصري رضي الله عنه، هو قول مروي عن الإمام مالك والإمام الشافعي رضي الله عنهما، وهو القول الصحيح الذي لا يمكن الاختلاف فيه، وهو في حقيقة الأمر نفس مذهب الجمهور الذين يرون أنها تكون في الليالي الوترية فقط، ولكن فيه زيادة تحقيق يلزم الجميع قبولها والتسليم بها.
فالإمام مالك رحمه الله يرى بأن الحديث صريح لا يحتمل التأويل: «التمسوها في تسع يبقين، أو سبع يبقين، أو خمس يبقين، أو ثلاث يبقين، أو آخر ليلة». ولكن التسع التي يبقين أو السبع التي يبقين أو غيرها تختلف باختلاف عدد أيام الشهر، فإذا كان الشهر ثلاثين يوما فالتسع التي يبقين هي ليلة اثنين وعشرين، وإذا كان الشهر تسعا وعشرين كانت ليلة واحد وعشرين، ولا يمكن معرفة عدد أيام الشهر إلا بانتهائه وهذا يوجب تحري ليلة القدر في الليالي العشر الأخير كلها.
وأما الإمام الشافعي رحمه الله فوجّه مذهبه توجيها آخر، فهو يرى أن اختلاف المطالع يؤدي في الغالب إلى اختلاف المسلمين في رؤية الهلال وبداية رمضان، فنجد في الغالب بعض المسلمين في ليلة ست وعشرين مثلا وبعض المسلمين في ليلة سبع وعشرين، وهي نفس الليلة وإنما اختلف عدّهم لاختلاف رؤيتهم، وليست رؤية بعضهم أولى من رؤية بعض، ولا يمكن لأحد الجزم بأن رؤية هؤلاء هي الصحيحة دون رؤية هؤلاء، وهذا يوجب تحري ليلة القدر في كل الليالي العشر؛ لأنها كلها محتمل أن تكون ليلة القدر فيها سواء الوترية أو الشفعية.
وواضح أن مذهب الإمامين ومن قال بقولهما قوي جدا، وفهمها فهم دقيق جدا، وهو تحقيق بديع جدا، قد يستغربه البعض؛ لأن عادة الناس التسليم بالمشهور الشائع، وخاصة إذا تداوله العلماء وأشاعوه. لكن الحقيقة أن هذا المذهب الذي يرى أن ليلة القدر قد تكون في الليالي الشفعية كما قد تكون في الليالي الوترية هو موافق تمام الموافقة لظاهر الأحاديث النبوية، وهو الموافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه المشهورة، فعن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله» رواه البخاري وسلم. فسنته صلى الله عليه وسلم إحياء العشر كلها كما هو صريح الحديث: «إذا دخل العشر..» أحيا ليله دون تحديد الليالي الشفعية أو الوترية، وهو شاهد قوي لجودة فهم ودقة استنباط الأئمة الحسن البصري ومالك والشافعي رضي الله عنهم.
قال الإمام ابن عطية الأندلسي المالكي رحمه الله: “وهي في الأوتار بحسب الكمال والنقصان في الشهر، فينبغي لمرتقبها أن يرتقبها من ليلة عشرين في كل ليلة إلى آخر الشهر؛ لأن الأوتار مع كمال الشهر، ليست الأوتار مع نقصانه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لثالثة تبقى، لخامسة تبقى، لسابعة تبقى»، وقال: «التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة»”. وقال الإمام سراج الدين ابن الملقن رحمه الله: “وإنما فعل ذلك؛ لأنه أُخبر أن ليلة القدر في العشر الأواخر، فسنَّ لأمته الأخذ بالأحوط في طلبها في العشر كله؛ لئلا تفوت إذ قد يمكن أن يكون الشهر ناقصا، وأن يكون كاملا، فمن أحيَا ليالي العشر كلها لم يفته منها شفع ولا وتر”. ومن هنا يظهر لنا خطأ كثير من الوعاظ الذين يركزون على وترية ليلة القدر، فيدفعون الناس دون قصد منهم لمخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يحي الليالي العشر كلها.
* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة