ليس يومًا عابرًا: العملُ كجوهرٍ للكرامة والوجود!

في زمنٍ تتقاطع فيه مسارات السياسة والتربية، ويعلو فيه صخب الشعارات على حساب القيم، يبرز يوم العمال كحدثٍ تتجلى فيه معاني الكرامة والعدالة والمسؤولية المجتمعية. فالتربية التي لا تغرس احترام العمل وقيمة العطاء، تفرغ الوطن من روحه، وتحول المؤسسات إلى هياكل خاوية. أما السياسة التي لا تضمن للعامل حقه، وتفرّق بين الأيدي على أساس النفوذ لا الجهد، فإنها تفقد مشروعها الأخلاقي. من هنا، يجب أن يُدرّس هذا اليوم في المدارس، ويُجسَّد في السياسات العادلة، باعتباره رمزًا لنهضة الشعوب وركيزة للوعي المجتمعي.
في الأول من أيار، تعلو راياتٌ لا ترفرف على حدود الجغرافيا، بل على خرائط الكرامة الإنسانية؛ إنه يوم العمال، اليوم الذي لا يُقرأ في سياق التاريخ فحسب، بل في سياق الوجود، اليوم الذي يحتفي بالعرق المنسكب على محاريب الإنتاج، وباليد الخشنة التي تبني الحضارة بصمت، وتنسج خيوط الحياة من عرق وجراح.
يوم العمال ليس طقسًا عابرًا، ولا طيفًا في ذاكرة الشعوب، بل هو وقفة تأمل عميقة في ماهية العمل، ومكانة العامل، وعلاقة الإنسان بالعالم من خلال فعله الإنتاجي. إنّه سؤالٌ فلسفي يتجاوز الحناجر والهتافات، ليبلغ جوهر الكينونة ذاتها: من نحن حين نعمل؟ وما معنى أن نكون فاعلين في واقع يضغط علينا بآليات السوق، ويسجننا في دوائر الاستهلاك؟
العمل، في المفهوم الفلسفي، ليس مجرد وسيلة للعيش، بل هو فعلٌ وجوديٌّ يعبّر عن قدرة الإنسان على التغيير والتحويل والإبداع. لقد نظر إليه أرسطو باعتباره ضرورةً لا تليق بالأحرار، ثم جاء ماركس ليقلب المعادلة، مؤكدًا أن العمل هو جوهر الإنسان الذي يُصاغ عبر إنتاجه وعلاقته بوسائل الإنتاج. أما حنّة أرندت، فقد ميزت بين العمل كوسيلة للبقاء، والعمل كفعل يبني العالم، مؤكدةً أن الإنسان يتحرر حين يجد في عمله قيمة تتجاوز الحاجة البيولوجية.
وفي ضوء هذه الرؤى، يغدو يوم العمال لحظة استبطان لا لحظة استعراض؛ استبطان لمآلات العمل في عالمٍ تحكمه العولمة، وتُؤطره التكنولوجيات الحديثة، ويُعاني فيه العامل من فقدان الأمان الوظيفي، وتضاؤل الاستقرار النفسي، وتهديد الكرامة الذاتية. لقد أصبح العامل، في كثير من الأحيان، مجرد ترس في ماكينة لا ترحم، أو رقمٍ في معادلات الاقتصاد الرقمية.
إننا بحاجة إلى إعادة الاعتبار لقيمة العمل الأخلاقية والتربوية والإنسانية. فليست القضية في تأمين الأجور وحدها، بل في صياغة ثقافة جديدة ترى في العمل وسيلة لتحقيق الذات، لا وسيلة لاستنزافها. العمل ليس عبئًا يُلقى على الكاهل، بل هو رسالة تنسج العلاقة بين الفرد ومجتمعه، بين الذات والآخر، بين الحاضر والمستقبل.
ولكي لا يُصبح يوم العمال مجرد شعارٍ أجوف، علينا أن نُفعّل معانيه في السياسات التربوية، وفي الخطاب الإعلامي، وفي البناء الثقافي للمجتمع. يجب أن نعلّم أبناءنا منذ نعومة الأظافر أن العامل ليس أدنى شأنًا من المفكر، وأن اليد التي تحفر في الصخر لا تقل شرفًا عن اليد التي تخط على الورق. بل لعلّ الأولى أشد التصاقًا بالواقع، وأقرب إلى نبض الأرض.
العدالة الاجتماعية التي ينشدها يوم العمال لا تُقاس بعدد الاحتفالات، بل بمدى ما يتحقق من ضمانات حقيقية تحفظ للعامل حقه في الأجر العادل، والتأمين، والتقدير، والكرامة. والكرامة هنا ليست مفهومًا مجردًا، بل هي الترجمة اليومية لإنسانية الإنسان وهو يعمل: أن لا يُهان، أن لا يُستغل، أن لا يُحتقر، أن يشعر أن له دورًا حقيقيًا في بناء المجتمع.
ومن زاوية أعمق، فإن يوم العمال فرصة لتأمل العلاقة بين العمل والتحرر، بين الفعل والإبداع، بين التهميش والتمكين. العامل ليس ضحية قدر، بل فاعل في مسار، وكل مجتمع لا يعترف بفضل عامليه، ولا يكرّم سواعده، إنما ينحر روحه، ويشوّه هويته.
في يوم العمال، لا نُكرّم العامل كشخص فقط، بل نُعيد الاعتبار لفكرة العمل ذاتها، كجسرٍ بين الحلم والواقع، وكمعنى يتجاوز مفهوم الوظيفة إلى أفق الرسالة. هو يومٌ نُعيد فيه تعريف النجاح، لا من حيث الثراء الفاحش، بل من حيث أثر العمل على الذات والمجتمع والإنسانية.
فلنحوّل هذا اليوم من لحظة خطابية إلى لحظة معرفية، ومن ذكرى سنوية إلى وعي يومي. فالأمم لا تنهض بالشعارات، بل بسواعدٍ يُنصفها القانون، ويحتضنها الوعي، ويُمجّدها التاريخ.