أمد/ في المنعطفات المصيرية، لا تُقاس القرارات بحماستها، بل بحصيلتها، ولا تُبرَّر النوايا حين تكون النتائج كارثية على شعبٍ أعزل.
وحين يخرج خطاب سياسي بعد أشهر من الدمار الشامل، محمّلًا بعناوين الحوار، والهدنة طويلة الأمد، وضبط السلاح، وإعادة تشكيل المنظومة الأمنية، فإن السؤال لا يكون عمّا قيل، بل عمّا كان يمكن أن يُقال قبل أن تُدمَّر غزة عن آخرها.
فهل كان الطريق إلى هذه اللغة السياسية يمرّ حتمًا عبر طوفان الدم؟
أم أن غزة دفعت ثمنًا لم يكن قدرها، بل نتيجة قرار لم يُحسب بميزان الشعب؟
غزة بين الحياة والرماد
غزة، التي كانت رغم الحصار تنبض بالحياة، بأسواقها، وجامعاتها، وأحيائها، وأمل ناسها، لم تكن جنة، لكنها كانت قابلة للحياة.
اليوم، لم يبقَ منها سوى الركام، وذاكرة مدينة أُحرقت، ووجع شعبٍ لم يُستشر حين اتُّخذ القرار باسمه.
إن السؤال الأخلاقي الذي يفرض نفسه هنا:
ألم يكن من الأولى التفكير بمصلحة أهل غزة قبل إشعال معركة مفتوحة؟
ألم يكن الأجدر حماية ما تبقى من حياة، بدل الذهاب إلى مقامرة وجودية؟
من المقاومة إلى المغامرة
المقاومة حق مشروع، بل واجب في مواجهة الاحتلال،
لكن الحق يفقد جوهره حين يُمارَس بلا حساب للنتائج، وبلا تقدير لحجم الخسارة الإنسانية.
المقاومة ليست استعراض قوة،
ولا سباقًا على المبادرات الصادمة،
بل فعلٌ وطني مسؤول، يوازن بين الكلفة والعائد، ويضع الإنسان الفلسطيني في صدارة القرار، لا في ذيله.
وحين تتحول غزة إلى ساحة اختبار لرسائل إقليمية، أو ورقة تفاوض غير معلنة، فإن السؤال يصبح أشد إيلامًا:
هل كانت غزة تقاوم… أم كانت تُستَخدم؟
الطوفان: القرار والنتيجة
السابع من أكتوبر لم يكن حدثًا عابرًا، بل قرارًا استراتيجيًا،
والقرارات الاستراتيجية تُحاسَب بنتائجها لا بشعاراتها.
وما بعد الطوفان كان واضحًا وقاسيًا:
تدمير شامل،
حصار أعمق،
تهجير واسع،
ثم خطاب سياسي يعود إلى مربعات كان يمكن الوصول إليها دون هذا الثمن الفادح.
وهنا تتجلى المأساة كاملة:
النتيجة السياسية لا توازي حجم الكارثة الإنسانية.
السياسة بعد الركام
الحديث عن هدنة طويلة الأمد، وضمان عدم استخدام السلاح، ودمج الأجهزة الأمنية، وتشكيل قوى حفظ أمن، يطرح سؤالًا جوهريًا:
لماذا الآن؟
إن ما يُطرَح اليوم بوصفه حلولًا سياسية، كان يمكن أن يكون موضوع نقاش قبل أن تُدفن العائلات تحت الأنقاض.
أما أن يأتي بعد الخراب، فهو اعتراف ضمني بأن البدائل كانت موجودة، لكن لم يُؤخذ بها.
الانقسام… الجرح الذي لا يندمل
إن أخطر ما في هذا المسار أنه لا يعالج الانقسام الفلسطيني، بل يكرّسه،
ويُعيد إنتاج إدارة غزة بمعزل عن المشروع الوطني الجامع.
لا تحرير دون وحدة،
ولا دولة دون قرار وطني واحد،
ولا كرامة لشعب تُدار قضيته بعقلية الفصيل لا بمنطق الوطن.
الرسالة الضمنية
ليس الخطأ في مراجعة الخيارات،
بل في أن تأتي المراجعة بعد أن يدفع الشعب الفاتورة كاملة.
وليس العيب في السياسة،
بل في سياسة تُدار فوق جثث الأبرياء، ثم تُطلب من الشعب أن يفهم ويصبر.
الخاتمة
يا أبا الوليد،
السياسة ليست خطابة، بل مسؤولية.
والمقاومة ليست حماسة، بل حكمة.
ليس هكذا تُولد الإبل.
ولا هكذا تُقاد الشعوب إلى الحرية.
غزة لم تكن بحاجة إلى بطولات لفظية،
بل إلى قرار يحفظ دماءها، وبيوتها، ومستقبل أطفالها.
سيكتب التاريخ من أنقذ شعبه،
كما سيكتب—دون رحمة—من قدّم شعبه وقودًا ثم فاوض على الرماد.
لكم الله يا أهل غزة…
أنتم من دفع الثمن، وأنتم من يستحق الحياة.
