لن يؤثر فينا القرآن العظيم من غير اللغة العربية !!

لا شك أن أسباب ذلك كثيرة، بيد أن هذه الأسباب مهما تعددت وكثرت فستبقى أسبابا ثانوية، وسيبقى السبب الرئيس الوحيد هو اللغة العربية، إذ أن أهل الجاهلية كانوا عربا أقحاحا يفهمون القرآن، ويدركون أبعاده، ويتذوّقون بيانه، ويخضعون لإعجازه بمجرد سماعه، أما مسلمو اليوم فقد غلبتهم العُجمة، وخضعوا لاستعمار لغوي بغيض، فصار العربي منهم أعجميا في لسانه، ومن ثم في فكره، فكيف بالأعجمي منهم أصالة!!
إن الله جل شأنه اختار بمعجز حكمته، التي تتقاصر عنها عقول البشر القاصرة وعلومهم المحدودة أن يكون وحيُه الخاتم باللغة العربية، وإعجاز هذا الاختيار ظاهر معلوم لمن كان ذا علم باللغات، أما غيرهم من الناس ولو كانوا (بروفيسورات) في تخصصاتهم فهم غير مؤهلين لإدراك هذه الحقيقة، والحكم العدل للخبراء وغيرهم تبع لهم، والمسلم عموما يُسلّم لاختيار ربه جلّ شأنه ويخضع ويؤمن: {لا يُسأٔل عما يفعل وهم يُسألون}، وكلما ازداد علما وفهما وعقلا عرف بعض حِكم الله في اختيار العربية لوحيه الأخير للبشرية، وهذا ما تُومئ له الآيات الكريمة: {إنا أنزلناه قرآنا عربي لعلكم تعقلون} {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}، وغير العقلاء لا يدركون أبعاد هذا الإنزال، {كتاب فصلت ءاياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون}، فالعلم شرط ضروري لفهم هذا الكتاب المعجز وإدراك حِكمه وحكمة اختيار العربية لغة له، وأقولها صراحة لكل من هو منزعج من كون القرآن عربيا أو لم يستوعب اختيار العربية لغة له: واجه نفسك بالحقيقة، فأنت لا علم لك باللغات إلا استعمالها، وحتى لو كنت تتكلم عدة لغات، فأنت تستعملها ولكنك لست من علمائها، وزيادة على ذلك أنت لا تعرف العربية معرفة عميقة دقيقة!، وإن كنت من علماء إحدى اللغات فأنت لا تعرف العربية قطعا وإن تكلمت بها!، ومن كان حاله هكذا فإنكاره أو عدم تقبله وعدم استساغته إنما هو عن هوى وجهل وليس عن علم، وهذا كاف في إهمال رأييه وإسقاطه، وهو حافز له أن يبحث ويتعلم ويسأل أهل الاختصاص في اللغات؛ ليدرك بعضا من خصائص العربية وتميزها عن باقي اللغات: {فاسئَل به خبيرا}.
وعليه، فمن المؤكد أن الجهود الطيبة في تعليم القرآن وتحفيظه وتجويده لن تُؤتي الثمار المرجوة منها ما لم توازيها جهودا مثلها أو أكبر في خدمة اللغة العربية وتعميمها في الاستعمال، وإلا فسيوجد لنا الكثير من حملة القرآن، وأكثر منهم من يتلوه ويستمتع بالاستماع لتلاواته، ولكنهم لا يتأثرّون به التأثر المطلوب، ولا ينتفعون الانتفاع المرغوب. وهذه الحقيقة البيّنة الواضحة التي يغفل عنها أكثر العلماء والدعاة أدركها الاستعمار؛ ولذلك حارب اللغة العربية حربا لا هوادة فيها، حتى أنشأ حاجزا سميكا بين أجيال من المسلمين والقرآن الحكيم، وخطط وأنجز مشروع تعميم اللغة العامية واللهجات العامية، والحق أنه انتصر علينا فيه انتصارا باهرا وحقق نتائج كبيرة؛ لدرجة أنه الآن لا يهتم بهذا المشروع ولا يخطط له كما في السابق؛ لأن مئات الآلاف بل الملايين من العرب والمسلمين ولست مبالغا يخدمون مشروع تعميم العامية الذي هو حرب على العربية لغة القرآن بعزم وقصد، فإن كانوا جاهلين فتلك مصيبة وإن كانوا عالمين فالمصيبة أعظم، وهؤلاء هم العلماء والدعاة والإعلاميون والأساتذة في كل الأطوار وغيرهم الذين يستعملون العامية في نشاطهم تحت ذرائع مضحكة مبكية: التبسيط / ليفهم الناس… ولا يدركون أنهم يحققون أهداف الاستعمار ويقدمون له خدمة جليلة مجانية، فأولى لنا لو نبذل الجهود لخدمة العربية بدل الانسياق وراء خطط المستعمر بمبررات واهية، إذ الواجب على النخبة رفع الجماهير إلى مستوى الإسلام وعظمة العربية لا أن ينزلوا هم بخطابهم إلى درك اللغة السوقية الدارجة!.
ولا يتسرع متسرع فيرمينا بالتعصب أو العروبية، فإن العرقية والعصبية ممقوتة ومنتنة في ديننا، وأكرم الناس عند الله الأتقى، ولا فضل لعربي بعربيته على عجمي، فالناس لآدم وآدم من تراب، وليعلم الجميع أن القرآن العربي المبين يرى أن تعدد اللغات والألسن هو آية من آيات الله العظيمة: {ومن ءاياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وأَلوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}، لا جرم أن الإسلام بمختلف دوله ساد مناطق واسعة فيها لغات متعددة لقرون طويلة، ولا تزال تلك الشعوب تتكلم بلغاتها مع تعلمها العربية وقراءتها للقرآن الكريم إيمانا وحبا، بل حتى اللهجات الضعيفة ما تزال منتشرة في كل بلاد الإسلام، ولو حاربها الإسلام لكانت قد انقرضت منذ أمد، عكس الاستعمار الغربي الذي بدل ألسنة شعوب عدة في إفريقيا وآسيا كرها وقهرا، وحارب العربية سرا وجهرا. وإنما كل ما فعله الإسلام أنه نصّب العربية لغة تجمع المسلمين مهما تباعدت أقطارهم، وليس من الضروري أن تكون اللغة الأولى، بل الثانية أو الثالثة حتى!. هذه ومضة لموضوع كبير، وتكفي اللبيب إشارة!
* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة