أمد/ “ماذا لو كنت مخطئاً؟” هذا العمل الثقافي الفلسفي النقدي الجديد للناقد الثقافي السعودي عبد الله الغذامي، وقد اتخذ من السؤال صيغة عنوانية لكتابه، هذا السؤال كما يبين في الفصل الأول من الكتاب ذو مجال بحث فلسفي، ويناقش مقولات فلاسفة كثيرين في المعنى الأصلي للوجود وللكون وللخالق، ويناقش بلغة فلسفية ومنطق عقلي مجرد كل تلك المقولات، وتحول فلاسفة من الإلحاد إلى الإيمان أو استمرارهم في إلحادهم، هذا الفصل كان كثيفاً ومثيراً، وكشف عن شخصية الغذامي الفلسفية العقدية.

بدا لي للوهلة الأولى أن الفصل الأول من الكتاب المخصص للفلسفة العقدية، ليس ذا صلة بالفصلين الآخرَيْن؛ إنما استطاع المؤلف أن يجعل السؤال المركزي للكتاب “ماذا لو كنت مخطئاً؟” عصباً للكتاب كله بفصوله الثلاثة، لينقل السؤال من الحقل الفلسفي العقدي إلى الحقل الثقافي، إضافة إلى أن الغذامي استطاع أن يجلب “المعنى الفلسفي” للسؤال في سياق المناقشة الثقافية والنقدية في ما بعد الفصل الأول، وهذا يعني أن السؤال تخطى حاجز الفلسفة بوعي كامل ومدرك من المؤلف، ولعله أراد أن يضفي على مشروعه الفكري الثقافي مسحة فلسفية، ولهذا ما يؤيّده، فلا انفصال بين الثقافة والفلسفة والنقد كما يوضّح الغذامي، فقد حل النقد محل الفلسفة، لأن كليهما له مهمة واحدة، هي البحث عن الحقائق، وكذلك مشروع الغذامي الفكري الثقافي هو مشروع بحث طويل في تعريف أبجديات الثقافة العربية والعالمية كذلك، وما يتحكم بها من آليات وأفكار غائرة ومستقرة في العقليات والنفسيات، وصارت سلوكا لا يُنتقد، وكما أن الفلسفة عالمية الطابع لأنها تناقش قضايا إنسانية وجودية عامة، كذلك فإن مشروع الغذامي في النقد الثقافي غدا عالمياً ويمكن لمقولاته أن تطبّق على السلوك البشري العالمي، وقد أكد هذا الغذامي في كتابه أيضا، ليغدو الفصل الأول ركيزة فلسفية يرتكز عليها الكتاب بمباحثه ومسائله كافة.

عاش الغذامي في المملكة العربية السعودية وقد شهد تحولاتها الكبيرة في السنوات الأخيرة نحو الانفتاح الفكري والتخلي عن “التطرف الديني” أو “النظرة السلفية” للدين التي كانت تفرض فَهْماً واحدا مُوحدا للدين وللتدين على المجتمع، فعاش هذه الفترة التي كانت فيها النظرة السلفية للدين والتدين طاغية جدا، إلى درجة امتناع التعدد الفكري أو الفقهي، وتجريم كل من ينادي بالانفتاح على الثقافات الأخرى، وقد واجه الغذامي في حينه هذا الفريق الذي لم يتورع ولم يتوان عن وصم الآخرين المخالفين له بالعلمانية أو الإلحاد أو التكفير.

وعلى أية حال، فإن للغذامي آراءه المعروفة في تلك الفترة، وقد عبّر عنها في كتبه المبكرة قبل انبلاج نظرية “النقد الثقافي”، عدا مقولاته ضمن نظريته في النقد الثقافي التي لم تكن تكشف عن الأنساق الثقافية المضمرة في الثقافة العربية وحسب، لكنها أيضا كانت تدينها، وإن لم تكن الإدانة علنية إلا أن كتبه كانت تحمل هذا الرأي الذي كوّنه بمعرفته وخبرته النقدية الأدبية والثقافية والعلمية والعملية قبل أن يدمجها كلها في مقولاته في “النقد الثقافي”، كما انتقد الفحولة الشعرية العربية والحداثة المزيفة لدى أدونيس ونزار قباني، ودافع عن القصيدة الحديثة التي ابتدعتها نازك الملائكةـ تلك القصيدة ذات السمات الشكلية الأنثوية، ويرى الغذامي أنه تم اختطاف هذا النموذج من فحول القصيدة القديمة الذكور!

يحيل الغذامي في هذا الكتاب المولود عام 2025 في عصر الانتفاح السعودي على الفكر الفلسفي العام إلى تلك المرحلة التي ألف فيها كتبه في عصر الانغلاق، وكأنه يعيد اكتشاف صوابية أفكاره ليكون عنوان الكتاب “ماذا لو كنت مخطئاً؟” في الماضي في تلك الحقبة المتشددة، فماذا سيكون حالي اليوم وحال نظريتي ومقولاتي في النقد الثقافي فإنها بالفعل ستسقط وسأكون أنا الآن غير ما كنته في تلك الحقبة؟

هل أراد الغذامي الاحتماء بالفلاسفة وآرائهم وهو ينتهج الطريق نفسه في إعادة تأكيد صحة مقولاته النقدية أم أنه أراد أن يرى مشروعه النقدي بعين الفلسفة؟ من الملاحظ أن الغذامي لم يذمّ الفلسفة أو الفلاسفة منذ أرسطو وأفلاطون وأنتوني فلو، ورسو، وبراند راسل، وآخرين من علماء الفيزياء، هذه الفلسفة التي كانت مجرّمة في حقبة سابقة، ويعدّ الحديث عنها زندقة وكفرا، يأتي الغذامي اليوم ويناقشها بكل وضوح ويطرح مقولاتها بصراحة كاملة، ويدحضها بروية وهدوء، لكن دون أن يستخدم أية مفردة من مفردات التشدد الديني أو التعصب المذهبي، ولكنه يستخدم مفرداتها وأهم مفاهيمها “عجز العقل” الذي بدأ فيه كتابه، ليكون مفهوما مؤسساً لفكرة الكتاب كلها، لأن هذا المفهوم يرى أن العقل البشري “ناقص وعاجز” ولا يحيط بالحقائق كلها، فلذا فإنه قاصر عن إدراك “الحقيقة المطلقة”، ومن هنا يمكن تفسير عذاب الفلاسفة وقلقهم وهم يبحثون عن الذات الإلهية وعجز بعضهم عن إدراك وجودها، فلم ينف الوجود ولم يثبته كذلك. إن هذا القلق قلق وجودي ناتج عن عجز العقل، لا عن “شقاء المعرفة”، كما هو في بعض مقولات الفلسفة الكلاسيكية.

يفترض سؤال الغذامي “ماذا لو كنت مخطئاً؟” المستعار من حقل المحاسبة الذاتية الفلسفية أنه ليس مخطئاً في نظرته الكلية والجزئية التي اتخذها على امتداد مشروعه الفكري الثقافي، فـ “ماذا لو كنت مخطئاً” تعني أنني إلى الآن لم أكتشف أنني كنت على خطأ، كما كان الفلاسفة المذكورين في الفصل الأول، وكما هو حال الشنفرى والمثقب العبدي والمتنبي وقريظ بن أنيف، وبهذا الفهم للعنوان الذي يؤكده متن الكتاب ومسائله، والإصرار على طرح أفكاره دون النظر إلى مناوئه ومعارضيه الذين أشار إليهم سريعاً، بمعنى أن تلك الأفكار ما زالت على حالها متوهجة وصحيحة، وما زالت تعطي أكُلها بدليل تجلياتها في العالم الحر في عصر الحداثة وما بعد الحداثة من خلال الأمثلة المطروحة في الفصلين الثاني والثالث.

إذاً، فإن الغذامي لا يقرّ بأنه كان مخطئاً، ليس لأنه يعاني من “التعصب الفكري” لذاته، ولا لأنه يقف أمام “مرآة معتمة”، إن كتاب الغذامي كان مرآة شفافة يواجه فيها نفسه في تلك الحقبة ومعه أدلته التي خلفها فيها، وكأنه قد تنفّس الصعداء ليكتشف كم كان “على حق” لكن دون غرور فلسفي أو هيجان عاطفي، فكل شيء لديه محسوب وبعقلانية فلسفية ترى الحقائق بعين الرائي الذي لا يحاكم إلا نفسه، كعادة الفلاسفة الذين قد واجهوا أنفسهم في الحقائق الكبرى كما طرحها في الفصل الأول.

لم يكن الغذّامي كما يظهر من الفصل الأول علمانيا أو ملحدا، بل مؤمنا إيماناً عقلانيا، يذكّرني على نحو شخصي بتلك المناقشات العقلية الذهنية المجردة في كتاب “نظام الإسلام” للشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله، وبالتحديد مبحث “طريق الإيمان” حيث يركز على الأسئلة الوجودية الأساسية وحل العقدة الكبرى، وكان النبهاني يستعين بالفلاسفة ومقولاتهم ويرد عليها ضمناً، وليس هذا وحسب بل إن الغذامي يوازن بين العلم والفلسفة، وقصور العلم عن بحث قضايا الإيمان، فالتفكبر العلمي الخالص المبني على ملاحظة الماديات لا يصلح طريقاً لإثبات وجود الخالق، لأن الطريقة العلمية طريقة مقتصرة على المحسوسات، لذلك برزت أهمية بحث التفكير العقلي في معالجة مسائل العقيدة، وبالتحديد ضرورة وجود خالق، يتصف بكل صفات الكمال والديمومة قبل “الانفجار العظيم” وبعد نهاية الكون، وكأنه يجيب عن سؤال الحياة ذاتها في امتدادها الماضي والحاضر والمستقبلي، وهذا سؤال فلسفي وجودي له ارتباط بالخالق، وله رجع في الديانات السماوية، وخاصة في الإسلام، ومباحث علم الكلام والاتجاه العقلي في التفسير الديني الذي يضع حدودا بين العلم ومسائله والإيمان ومباحثه، دون أن يتصادما أو يتعارضا ودون أن ينفي أحدهما الآخر أو يقلل من شأنه، ومن أهميته.

هذا البحث الفلسفي يوظّفه الغذامي في الفصلين اللاحقين للكتاب، الثاني والثالث، حيث يعيد في الفصل الثاني مبادئ نظريته في النقد الثقافي، ويعيد تحليل بعض النماذج الشعرية العربية القديمة، ويذكر بالأنساق المضمرة في الثقافة العربية وامتدادها الإنساني، فيرى أن العالم مقسوم إلى خير وشر؛ وهي فكرة فلسفية، منذ تجلياتهما في هابيل وقابيل، وما زال هذا النسق عاملاً عالميا وليس فقط في الثقافة العربية، فيتوقف عند جملة ترامب التي قال فيها إنه يريد إنهاء الحروب، ويحللها ثقافيا وسياسيا، ليرى أنها تعبر عن وجه استعماري يرى أنه من حق القوي تفسير الكلام والهيمنة على العالم، بمنطق العظمة الأمريكية التي صرّح بها ترامب نفسه، فهل كانت العبارة مجسدة للخير إذاً أم رجع للشرّ المختزن في السياسة الأمريكية التي لا توفر فرصة للهيمنة على العالم جميعه، وعلى مقدراته لتصنع “الخير الأمريكي” المتوافق مع “سلام أمريكا”!

ويتخذ الغدامي بعدا عالميا في مناقشة الخير والشر ومسائل الهوية والوطن والاعتراف بالمواطنية والغربة والاغتراب للمهاجرين، وعلاقة البشر معاً، وعلاقة البشر في ظل ظروف غير طبيعية بالحيوانات؛ قديما في الشعر العربي، وحديثا كحالة جون المتشرد وكلبه جورج، ويقف محللا مسألة التعددية الثقافية التي لا يراها سوى خدعة ممتدة تتجلى في طرح الثقافة الواحدة المعولمة، واندماج المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة، ما يعني تخليهم عن كل مظاهر ثقافتهم ورموزها، ليكتشف القارئ أنه لا يوجد مفهوم حقيقي للتعددية الثقافية إنما هي “الهيمنة الثقافية” التي ترتد إلى منطق قابيل نفسه، عالم واحد وقطب واحد، بثقافة واحدة.

كتاب “ماذا لو كنت مخطئاً؟” يعيد المسائل مرة أخرى دون أن يضيف إليها جديداً، إنما هي ككل الكتب والأفكار التي تنحو منحى محاسبة الذات، تؤكد الأفكار وأهميتها، ومقدرتها على تجاوز الراهن إلى المستقبل؛ لأن أفكار الماضي كانت صحيحة وصائبة، فمفهوم “المؤلف المزدوج” ما هو إلا توكيد أن الثقافة المستقرة التي تصنع أنساقها في العقول هي الفاعل الأساسي والمؤلف المشارك للكاتب، توجهه دون أن يعي، ولا يكشف عن ذلك إلا نظرية النقد الثقافي، لا الدراسات الثقافية، ولا النقد الأدبي المهتم بجماليات العمل الأدبي، وفي هذا السياق يصبح مبررا جدا أن يحيل المؤلف القارئ إلى كتبه ذات العلاقة بالنقد الثقافي وإشكالياته.

شاركها.