اخر الاخبار

لماذا كُفّر الزنجاني؟ أمد للإعلام

أمد/ حين أهداني المؤرّخ الموسوعي محمد سعيد الطريحي كتابه التوثيقي الموسوم ” الإمام عبد الكريم الزنجاني: بين يدي التاريخ” (ثلاث أجزاء أكاديمية الكوفة هولندا، 2024)، سررت كثيرًا لأنني كنتُ متابعًا لسيرة الرجل، المثير للجدل، علمًا بأن آراءه واجتهاداته لقت اهتمامات عربية وعالمية، لكنها قوبلت بازدراء ومحاربة من الوسط الديني، الذي ينتمي إليه، بسبب دراسته وتدريسه للفلسفة وانشغاله بها، وإشكالات تتعلّق بشخصه، فضلًا عن المنافسة على الزعامة.

وبغض النظر عن رأي خصومه، وما أُثير حوله من شكوك واتهامات، فقد فتح الزنجاني (1886 1968)، بابًا منهجيًا جديدًا، لم يعد بالإمكان إغلاقه في الحوزة العلمية النجفية، علمًا بأنه برز  في فترة عرفت عددًا من الفقهاء والمجتهدين الكبار، تمايز عنهم بجرأته وقوّة منطقه ومجاهرته بآرائه الفلسفية والاجتماعية، والسعي لنشرها على نطاق واسع، حيث كان مؤمنًا بالحوار والتسامح وقبول الآخر، وعمل للتقريب بين أتباع المذاهب وأتباع الأديان وأتباع العقائد.

       لم ينزوِ الزنجاني في النجف الأشرف وفي أزقتها مثل العديد من المراجع الذين سبقوه أو جايلوه أو أعقبوه باستثناءات قليلة، بل شعر أن رسالته هي أبعد من النجف وأبعد من العراق وأبعد من البلدان العربية، فانطلق إلى العالم حاملًا النجف إليها، مبشرًا بأطروحاته الجديدة، مقدّمًا نموذجًا مختلفًا لعالِم الدين، لاسيّما بانفتاحه ومعرفته وعلمه، فالتقى ملوكًا ورؤساءً وأمراءً وعلماءً، ودُعي لإلقاء محاضرات في المنتديات والجامعات، وتعاملت معه وسائل الإعلام بانفتاح شديد، مثلما تعامل هو مع الجميع بمرونة كبيرة وأريحية عالية.

 لم يترك الزنجاني للتعصّب المذهبي أو الديني مكانًا في قلبه أو عقله، بل كان الاعتدال والوسطية والحق في الاختلاف من دعامات شخصيته، وهو ما ذهب إليه العلّامة محمد جواد مغنية، وشيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي والمفكّر الدكتور طه حسين والعالم الموسوعي المصري محمد فريد وجدي والقاضي مصطفى الغلايني، رئيس المجلس الإسلامي في بيروت، والقاضي والفقيه والشاعر محمد طاهر الأتاسي ومحمد كرد علي، وزير المعارف ورئيس المجمع العلمي العربي بدمشق، وهو أولّ مجمّع عربي أُسّس في العام 1919، وهؤلاء جمعيهم تعاملوا معه باحترام شديد.

       وكان الزنجاني قد زار مصر في العام 1936، وحسب محمد فريد وجدي فإن العلماء المصريون اعتبروه “أفضل علماء المسلمين”، لاسيّما في مجال الفلسفة بشكل عام والفلسفة الإسلامية على وجه الخصوص، ولم يكتفِ الزنجاني بزيارة مصر فحسب، بل زار فلسطين وسوريا ولبنان، وألقى خطبةً في الجامع الأموي، دعا فيها إلى الوحدة والاتحاد، وحاضر في محافلها الثقافية والدينية، كما ألقى خطبة نارية في القدس الشريف، مقتفيًا أثر العلّامة محمد حسين كاشف الغطاء، الذي شارك في المؤتمر العربي الإسلامي في القدس الشريف (1931)، ودعا فيه إلى “تغيير الحج في ذلك العام من مكة إلى القدس” لدعم ثورة البراق، التي كانت مندلعة منذ العام 1929؛ وكان المؤتمر يضمّ علماء دين كبار مسيحيين ومسلمين (سنة وشيعة) ومن جميع المذاهب والاتجاهات الفكرية، إضافة إلى شخصيات متنوعة وبارزة من العالم الإسلامي.

وعلى الرغم من ممانعة الشيخ أمين الحسيني مفتي القدس من زيارة الزنجاني إلى تل أبيب خشيةً على حياته، إلّا أنه قام بالزيارة بالفعل في 8 كانون الأول / ديسمبر 1936، وألقى خطبة اعتبرت بمثابة “إنذار تاريخي”، خاطب فيها المستوطنين: عليكم أن تخرجوا من فلسطين وتتركوها لأصحابها.

نار جهنم

       ويبدو أن هذا الموقف فتح عليه نار جهنم كما يُقال، واستغله خصومه، خصوصًا في ظل فتن ودسائس لم يكن بعيدًا عنها النفوذ البريطاني في العراق وفلسطين، وفي الثلاثينيات أيضًا، زار الزنجاني الهند، التي هي الأخرى كانت تحت السيطرة البريطانية قبل استقلالها في العام 1947، وكانت زيارته رحلة عمل طويلة، ألقى فيها محاضرات عديدة، والتقى بالفيلسوف محمد اقبال ( 1877 1938)، ودخل معه بحوارات معمقة بخصوص الفلسفة، وقد سبق للباحث الطريحي أن نشرها في العام 2009 تحت عنوان “الوحي والبرهان”.

 واجتمع مع مولانا أبو الكلام آزاد (18881958) رئيس حزب المؤتمر الهندي، والتقى بطائفة الداليت “المنبوذين”، ويعود له الفضل في إلفات نظر الأزهر الشريف إلى أحوال هذه الجماعة المأساوية، حيث بادر الأزهر الشريف إلى إرسال بعثة أزهرية لدراسة أوضاعها.

الفلسفة والتحريم

كانت النجف عنوان رسالة الزنجاني الأساسية إلى العالم، لكن ذلك الاستقبال والحفاوة التي كان يلقاهما في حلّه وترحاله، أثارت حفيظة خصومه لأنهم اعتبروه منافسًا لهم، فاشتدّت الحملة عليه والإساءة إليه، خصوصًا حين شغرت المرجعية بعد وفاة آية الله السيد أبو الحسن الأصفهاني في العام 1946، وغالبًا ما تشهد أجواء المرجعية صراعات ونزاعات واقصاءات معلنة وخفيّة، يتمحور جوهرها الحقيقي حول “الزعامة”، وهكذا فُرض عليه حصار قاس استمر حتى آخر أيام حياته.

كانت مناهج الحوزة العلمية تقليدية ومحافظة بشكل عام حتى أواسط الخمسينيات، حيث كانت الفلسفة محرّمة فيها لدرجة التأثيم والتجريم، والأمر يشمل علماء الدين من جميع المذاهب الإسلامية، لأن من يشتغل عليها برأيهم هو من “أهل الأهواء والبدع”، وعليه لابدّ من اتخاذ مواقف حازمة إزاءه، فلا تُقبل شهادته، وينبغي عزله ومقاطعته اجتماعيًا وتأديبه على بدعه لدرجة تنجيسه، وما يزال حتى يومنا هذا من يعتقد بمثل هذه الآراء السقيمة في بعض المدارس الدينية، وكان السيد الخميني من ابتلى بها وحاول مقاومتها، وقبل ذلك أُهدر دم العلامة السيد محسن الأمين باعتباره “زنديقًا”، وهو صاحب موسوعة “أعيان الشيعة”، وجرى التحريض على قتله.

وإذا ذهبنا أبعد من ذلك، فقد كان العلّامة ملّا صدر الشيرازي (1572 1640) الحكيم والفيلسوف صاحب نظرية “أصالة الوجود واعتبارية الماهية”، قد تعرّض هو الآخر إلى صنوف المضايقات، فكفّر ورُمي بأبشع التهم، بسبب آرائه المعروفة بالحكمة المتعالية.

 الجدير بالذكر أن المناهج الدينية بدأت تميل إلى التحديث والعصرنة، وإن ببطء شديد، وكان ثمة إرهاصات تطلّ برأسها بين الفينة والأخرى، ففي العام 1918، أطلق شباب على أنفسهم اسم “معقل الأحرار” من داخل الحوزة العلمية، ضمّت كلّ من الشاعر أحمد الصافي النجفي وسعد صالح جريو، الذي أصبح وزيرًا للداخلية لاحقًا، وعباس الخليلي وسعيد كمال الدين وعلي الدشتي، الإيراني الجنسية، الذي عاد إلى إيران وأصبح له شأنًا كبيرًا.

 ثم جاءت الموجة الثانية التي برز الشيخ محمد رضا المظفر كأهم المجدّدين فيها، وضمّت في الخمسينيات من القرن الماضي الشباب حينها، السيد محمد بحر العلوم والسيد  مصطفى جمال الدين والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله، ولاحقًا السيد محمد باقر الصدر وآخرين، وهو ما تناولته في كتبي “سعد صالح: الضوء والظل الوسطية والفرصة الضائعة” و “الإمام الحسني البغدادي مقاربات في سيسيولوجيا الدين والتديّن” و”دين العقل وفقه الواقع مناظرات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي”. 

وبخصوص أطروحات الزنجاني، جرت محاولات لزندقته وتفسيقه وتكفيره، وانقدح الشر في قلوب الجهلاء من العامة، بتحريض مباشر أو غير مباشر، لإلصاق شبهات به لا علاقة له بها من قريب أو بعيد؛ كل ذنوبه أنه كان داعيةً للإصلاح والتجديد، معليًا من شأن القيم الدينية الإنسانية. وباعتراف أكابر العلماء من خارج دائرة الحوزة، بل حتى من خصومه، هو الأكثر ألمعية وأعلمية وزهدًا، “والفضل ما شهدت به الأعداء”.

في السوق الكبير

أتذكّر أن الزنجاني كان حين يمر في السوق الكبير في النجف قادمًا من حضرة الإمام علي، يواجهه بعض العامة بكلام مسيء، لكنه يمضي في طريقه مستغفرًا الله، ولاحظت ذات مرّة أن والدي نزل من متجره في السوق الكبير ليسلم على الزنجاني باحترام، وهو ما لم يفعله مع غيره من علماء الدين الذين يحترمهم كذلك، وحين سألته عن السبب، أفادني أنه “مظلوم”، وهو بحاجة إلى دعم معنوي، بسبب التغوّل عليه واستضعافه وبث الإشاعات والأخبار الكاذبة عنه، وهكذا بدأت أتابع سيرته.

 وعرفت من الشيخ أحمد الوائلي (1928 2003)، بأسف وحرقة شديدتين، كيف كان بعض الجهلة يسيئون إلى الزنجاني بما هو مشين بانتهاك حرمته لدرجه الوقاحة والخسّة، وهو ما ذكره لي السيد هاني فحص، الذي لم يحظَ بلقائه، ففي السنة التي جاء فيها للدراسة في النجف فارق الزنجاني الحياة بعد فترة وجيزة، وإن كانت مسموعاته عنه لا تختلف عن مسموعاتنا، لكنه أشاد بمناقبيته.

       وإذا كنّا قد عرفنا وجود جندرمة أو ميليشيات من الأحزاب التي تطلق على نفسها “الثورية”، والتي كانت تمارس مثل هذه الأدوار ضد خصومها وأصحاب الرأي والمجتهدين، فإن ثمة جندرمة أو ميليشيا دينية، هي أقرب إلى ميليشيات تُسخَّر ضد بعض المجتهدين، وهي ما تسمى اليوم بالذباب الإلكتروني. وفي فترة سابقة شكا لي العديد من المجتهدين ما تعرّضوا له من محاولات عزل وإساءة من ذات الفريق الذي ينتمون إليه.

ختامًا أقول، عاش الزنجاني فقيرًا ومات فقيرًا، بل عريانًا جوعانًا كما يقول الباحث الطريحي، وكان كل متاعه دواة حبر وريشة وأفكار ظلّت طائرة على حدّ تعبير العلامة الكبير ابن رشد، الذي هو الآخر نُفي وأُحرقت كتبه.

نشرت في جريدة الزمان (العراقية) في 16 كانون الثاني / يناير 2025.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *