أمد/ ظاهرة دولة إسرائيل اللقيطة ولدت وهي تحمل في جوهرها ازماتها البنيوية العميقة، من حيث مركباتها الاثنية والسياسية والاقتصادية الاجتماعية والثقافية والدينية، ورغم تمكنها من تجاوز تلك الازمات في العديد من المحطات بفعل الاستيطان الاستعماري وتوسعه، والحروب التي شنتها على الشعب الفلسطيني والدول العربية، وبفعل الدعم غير المشروط من قبل دول الغرب الرأسمالي، غير انها لم تتمكن من القضاء عليها وطمسها. لأنها عميقة عمق مركباتها، وبقيت تتراوح بين الخفوت النسبي والصعود في سياق سيرورتها، وكلما كانت تشهد مؤقتا فترة من الهدوء، كانت تعود الى سطح المشهد الإسرائيلي غير الطبيعي، حتى ان زعماء إسرائيل التاريخيين ومن تولى المسؤولية بعدهم، كانوا جميعا يدركون عمق أزمة البقاء من عدمه لدولتهم الطارئة وغير الشرعية، وأستحضر حوارا بين ديفيد بن غوريون مع رئيس الوكالة اليهودية غولدمان عام 1953، عندما سأل الأخير بن غوريون “هل تتوقع أن تدفن في إسرائيل؟ رد عليه رئيس الوزراء الأول، اعتقد أني سأدفن هنا، لكن ابني اشكك في ذلك، أما حفيدي فلا أعتقد”، وهذا نموذج عن أعمق ازمة تواجهها إسرائيل في تاريخ وجودها.
ومع ذلك واصل قادة إسرائيل التمسك بأهداف مشروعهم الصهيوني الكولونيالي، المستند الى بلوغ النفي المطلق للشعب العربي الفلسطيني بشكل كامل من أرض وطنه الام فلسطين، عبر تعميق عملية التطهير العرقي لنكبة عام 1948، كي يطمئنوا لبقاء الدولة المارقة والخارجة على القانون، وجاءتهم الفرصة الذهبية بعد هجوم السابع من تشرين اول / أكتوبر 2023، حيث تعاطف معهم الرأي العام الدولي الأهلي والرسمي لبعض الوقت، غير أن سحر تلك اللحظة انقلب على الساحر الإسرائيلي مع تعاظم الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني عموما وفي قطاع غزة خصوصا، بعد انكشاف وجه دولة الإبادة الإسرائيلية الاجرامي، وتمثل برفع دولة جنوب افريقيا الصديقة دعوة قضائية لمحكمة العدل الدولية نهاية كانون اول / ديسمبر 2023، وبعد اصدار محكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال ضد رئيس الوزراء ووزير دفاعه السابق، وتحول الراي العام الدولي بتواتر وتصاعد واسع شمل دول العالم قاطبة وخاصة في دول الغرب الأوروبي والأميركي، مما أحدث انزياحا متدرجا في مواقف الأنظمة السياسية في الاتحاد الأوروبي، وباتت دولة يهود الخزر الصهيونية تعاني من انقلاب الرأي العام الدولي ضدها، وزادت عزلتها الدولية، وأخذت روايتها في الاضمحلال والانكفاء، في مقابل تعاظم التأييد للشعب الفلسطيني ولحقوقه السياسية والقانونية، وشهد العام الحالي 2025 اعتراف المزيد من الدول وخاصة من الاتحاد الأوروبي ودول غربية أخرى مثل كندا وأستراليا، حتى بلغ عدد الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية 159 دولة. كما شهد الرأي العام الأميركي تحولا ملموسا في دعم الشعب الفلسطيني والمناداة باستقلال دولة فلسطين بنسبة تصل الى 60% وفق استطلاعات الرأي العام الأميركي، وهذا ما أشار له الرئيس دونالد ترمب في شهر أيلول / سبتمبر الماضي، عندما حذر بنيامين نتنياهو وأركان ائتلافه من الانزياح الجاري في الولايات المتحدة بما في ذلك داخل الحزب الجمهوري، وليس في الحزب الديمقراطي فقط، فضلا عن التحول في أوساط النخب البرلمانية والاكاديمية والثقافية والفنية، ونبههم لضرورة خطورة تلك التحولات.
كما ان الازمات الإسرائيلية لم تقتصر على تحول المزاج في الرأي العام الدولي، وزيادة عزلة إسرائيل، انما هناك ازمة الافراج عن الرهائن الإسرائيليين، وأزمة مع المعارضة، والازمة بين المستويين السياسي والعسكري الأمني، التي أدت لعزل عدد من قادة الجيش: منهم وزير الحرب يوآف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هليفي وغيرهم من قادة المناطق، ورئيس جهاز الشاباك رونين بار، وأزمة الجيش برمته الناجمة عن تداعيات الحرب التي تركت بصمات وندوب كبيرة في أوساط قوات الاحتياط، والازمة مع المستشارة القضائية للحكومة، وازمة الانقلاب القضائي التي تعمقت من بداية العام 2023 حتى هجوم السابع من أكتوبر، ومازالت تداعياتها حتى الان، والازمة الاقتصادية المتفاقمة، التي تمثلت بالهجرة العكسية للنخب الاقتصادية من إسرائيل للخارج، والانخفاض الحاد في الاستثمار الخارجي في إسرائيل، وسحب العديد من دول الغرب الأوروبي استثماراتها من إسرائيل، والازمة بين التيار الديني الصهيوني الأكثر نازية والتيارات الأخرى، وأزمة فساد رئيس الحكومة، التي أظهر آخر استطلاعات الرأي قبل يومين انخفاض حاد يصل الى 63% من الشارع الإسرائيلي في ثقته برئيس الحكومة نتنياهو وأركان ائتلافه.
ورغم الدعم غير المسبوق ماليا من قبل الولايات المتحدة الذي بلغ نحو 31 مليار دولار بين تمويل التسليح للجيش الإسرائيلي ومجالات اخرى، الا ان هذا الدعم لم ينقذ الدولة الإسرائيلية من ازماتها، وسيكون لمجمل الازمات ارتدادات واسعة على المجتمع الإسرائيلي في اليوم التالي للجرب الهمجية التي تواصلها دولة الإبادة الإسرائيلي حتى الان مع دخول العام الثالث للإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني في القطاع.