” لديّ حلم” أمد للإعلام

أمد/ تعرّفت على الأسير سامر عصام المحروم عبر كتابه “”، زرته في شهر شباط 2020 في سجن النقب الصحراويّ كتسيعوت(أنصار 3)؛ أطلّ مكبّلًا بالسلاسل في يديه ورجليه، مبتسمًا، تحدّثنا عن الأمر، فقال إنّها محاولة إذلال وكسر معنويّات الأسير ولا علاقة لها بالأمن ومتطلّباته، فالإدارة تتحكّم بكلّ صغيرة وكبيرة. تحدّثنا عن كتابه الأول “دائرة الألم” وعن روايته “ليس حلماً” ودور المرأة، السجن علّمه احترام المرأة أكثر وأكثر نتاج الظلم التاريخي لها وأهميّة تحريرها لنتحرّر، علينا كسر تابوهات عديدة. يحاول الاحتلال تدمير القِيَم وشيطنة الفلسطيني عامّة والأسير خاصّة، ولهذا يطمح بأن يعيش في وطن يشعر الإنسان فيه أنّه محترم.
تحدّثنا مطوّلاً عن التعدديّة وأهميّة احترام المختلف وتقبّل الآخر، فيطمح في كتاباته أن يترك بصمة إنسانيّة في الحياة، وما زالت تلاحقه وتؤرقّه مشهديّة تفجير باب بيته ساعة اعتقاله ممّا أدّى لفقدان توأمين، جنينين عمرهما خمسة شهور، ورغم ذلك حقّق حلمه وانتصر على سجّانه ليصير أبًا لياسمين وآدم رغم القضبان والزنازين، نتاج نطفتين محرّرتين.
قرأت “الرواية” ثانيةً (حكاية، 131 صفحة من الحجم المتوسط، تصميم ولوحة الغلاف: أيمن حرب، الصادرة عن طِباق للنشر والتوزيع، رام اللهفلسطين) حين صادفتها أثناء ترتيب ركن أدب الحريّة في مكتبتي.
واجهت أحلام الأسرى بالحريّة؛ سمعتها في كتاب “أحلام بالحريّة” للصديقة عائشة عودة، وفي كتاب “للحلم بقيّة” للصديق سائد سلامة، وفي مفاتيح زنازين الصديق معتز الهيموني، وفي مقولة الصديق أحمد عارضة “مروّحين يعني مروّحين”، وراجعت شريط مئات لقاءاتي بأصدقائي الأسرى ووجدت موتيف الحلم بالحريّة مركزياً فيها، حلّق في فضاء كلٍّ منها، فوجدت الأسير يحلم بحريّة حتميّة قريبة منذ يوم اعتقاله الأوّل. “منتظراً الحرية الموعودة منذ السنة الأولى لاعتقالي ولم أخيّب نفسي يوماً بفقدان الأمل” (ص. 55) يحضّر الأسير من يومه الأوّل لبسة الترويحة، بقجته ووضع فراش النوم قرب باب الزنزانة في إشارة إلى أنّ موعد حريّته قريباً جداً.
كتب الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله في التظهير: “في كتابة السجين عن حريته أمرٌ ضروري، فكل كتابة تغدو في لحظة تشكلها انعتاقاً من السجن وقسوة السجّان، وكل كتابة هي أيضا محاولة لتهريب الذات عبر القضبان، ليكون هناك جزء حي من السجين خارج الزنزانة، هو كتابه، الذي سيلتقي قرّاء وقارئات، ويجلس فيواجه مكتبة، ليخرج في يد من سيختاره ليقضي معه ساعات وساعات”.
يحلّق الحلم بالحريّة في فضاء الحكاية “كُنا دوماً نستحضر الحلم الدائم بالتحرر” (ص.40)، يحلم ليبقى الأمل أكبر من الألم ذاته بتكسير الطوق والتحرّر، ورغم حكم المؤبد يبقى لديه الأمل بحريّة قريبة.
والحلم يرافق الأسير منذ ساعة اعتقاله؛ يبدأ بالحلم ساعات وأيام التحقيق أن ينتهي منها، وحين نقله إلى الزنازين وغرف السجن يبدأ الحلم بأن يحصل على هذا الإنجاز أو ذاك من مروَحة أو مذياع أو تلفاز، أو حتى حبل صغير يعلّق عليه ملابسه الداخليّة من دون أن يقطعه لؤم السجّان.
يحلم الأسير “بدأت بالعد التنازلي لذاك اليوم الذي أمسك فيه مفتاح غرفتي بيدي أُغلق وأفتح الباب كيفما أردت” (ص. 50)، وسمعت من كثير من الأسرى والأسيرات الذين التقيتهم بأنهم ينتظرون إمساك المفتاح والتحكّم به، وحين التقيت بكريم يونس، بعد أسبوعين من تحرّره وقد أمضي 40 عاماً في الأسر، وبيده مفاتيح البيت وقال لي: “شايف، هاي المفاتيح بإيدي ولمّا بنام، بنيّمهن معي بجيابي”، لأنّ المفتاح، طيلة فترة الأسر، بيد السجّان، في كلّ وقت يشاء يُصادر خصوصيّة الأسير تحت ذريعة الأمن.
وجدت الكتاب نوعاً من النص السردي المفتوح (لن أغوص في التجنيس، هل هو رواية أو حكاية أو سرديّة)، يوثّق معاناة الأسرى، ويروي أحداثاً حقيقيّة، أشخاصه وأماكنه حقيقيّة، يصف تجربة خاضها، تجربة قاسية بمثابة مادة أدبية رائعة تثري النص. يؤكّد أهميّة الرسالة القادمة من العالم الخارجي بالنسبة للأسير، رغم إيمانه أنّ السجّان ينتهك خصوصيّتها ويفتحها ويقرأها لأسبابه الأمنيّة الواهية، “كلّما طالعتُ رسالةً من الرسائل وقرأت سطورها أحيا خارج حدود سجني متحدياً كل القيود والأسلاك الشائكة والوجه القبيح بكل مكوناته” (ص. 16)، وحين قرأتها أخذتني مجدّدا للقائي بالأسيرة إخلاص صوالحة في سجن الدامون، حين وصّلتها رسائل العائلة ترقرقت الدمعة في عينيها، أخبرتني أنّ بنات غزّة “صاروا يعيّطوا لمّا وصّلتلهن سلامات من الأهل”، والرسائل التي كنت أوصلها لها أعطتها الأمل، فالرسائل للأسير نَفَس، “الرسائل بتِحييني وبتعطيني أمان، أصعب شي ع الأسير ينتَسى، وهو زيّ العطشان لمّا يشوف الميّة”.
يتناول محاولات الاختراق الأمني وابتزاز العشّاق للعمل لصالح الاحتلال عميلاً وجاسوساً، فالاحتلال عدو الحب والعدو الأول للإنسانيّة.
ويحمل بين طيّاته بنات أفكار صاحبه وخلاصة تجربة حياتيّة، قبل الأسر وبعده، ومن ثمّ الأسر من جديد؛ فوصل إلى قناعة مفادها أنّ “بعض السياسيين استثمروا عذابنا لتحقيق مكاسب مادية وملء حساباتهم في المصارف والبورصة” (ص. 120) ورغم ذلك يفضّل أن يبقى صلباً، “صاحب الموقف الدائم والثابت أفضل من كثير ممن مواقفهم مُتقلّبة كما حال ميزان الجزر (ص. 56)، وينادي بحلّ الأمور جذرياً، لأن العلاج الترقيعي المقلوب هو الذي يجعل الجريمة مستمرّة.
ينتقد سامر صمت الشارع الفلسطيني ومثقّفيه، فالصمت عار، ويناشد “السحّيجة” أن يكفوا عن التصفيق وليوقفوا الهتاف لشعارات رنّانة تُعمي أبصارهم ببريقها لكي لا تصل إلى عقولهم بمعانيها الحقيقيّة. وما أشبه اليوم بالأمس، لا رُحنا ولا جينا.
ويصوّر بحرفيّة “مقاومي الرفاه”: “بالأمس كانوا يقولون إن الثائر سمكة وبحرها الجماهير، ولكن بعد السُلطة تُصبح السمكة تمساحاً لا يحتاج إلى بحر، بل يكفيه مستنقعات آسنة تفي باستمرار حياته، فلا حاجة للبحر”. (ص.88) نعم، باتت السياسة مُشيطنَة، بعيدة عن مصلحة الإنسان الحقيقيّة.
يتناول بحرقة مقاصل الفساد والتسلط والإقصاء السياسي في الساحة الفلسطينيّة الذي بات أصعب من مقصلة الاحتلال رغم كونه كيان دَموي بتكوينه، رغم إيمانه بأنّ كل إنسان قادر على أن يكون شريفاً وصاحب دور نضالي في هذه الحياة، كلٌّ حسب طريقته ومقدرته. يا لها من براءة جيل الانتفاضتين الذي لم يتلوّث.
وجدت سامراً نصيراً للمرأة؛ فالزوجة في كل بقاع الأرض تتعلم فن الطبخ، إلا هنا في فلسطين يضاف إليها فن التحمل والصمود في وجه هذا الطاغوت”. (ص. 108)، وينتقد إجبار الفتاة على ارتداء الحجاب “أعتقد أننا نُعطي الحجاب اهتماماً مبالغاً فيه كما لو أنهُ مفتاح الشرّ والآثام، إن لم يتم ارتداؤه وكل الخير عند ارتدائه” (ص. 45) ويصل إلى قناعة أن مسألة الحجاب أصبحت مسألة سياسيّة أكثر منها دينيّة، فالسياسة تطغى كثيراً على المعتقدات والقيم. ويقولها بصريح العبارة: “أنا أشجّع أولا على التربية الإنسانية للمرأة لتأخذ موقعها الطبيعي في المجتمع والذي حُرمت منه تاريخياً وما زال منقوصاً” (ص. 47). يتناول عمليّة القتل “على شرف العائلة” ويرمي بسهامه تجاه الجُناة، المخصيّين، ويصب جام غضبه عليهم لأنهم يُعلقون كل عيوبهم ونقائصهم على شماعة الضحية.
ويبقى أصعب ما في السجن وأقساه أنّ الأسير عارٍ رغماً عنه أمام حقيقة السجان الباردة ويبقى كذلك طيلة فترة أسره، يطمح العدو باحتلال عقول الأسرى وسلوكهم الاجتماعي ورغم ذلك يحاول كلّ الوقت ألّا يُفرح مدير السجن وحاشيته برؤية الانكسار في داخله رغم الوجع والخيبات، ويصل إلى قناعة مفادها: “نعم لآلام الجوع وألف لا لآلام الركوع”!
نعم، “خيال عن خيال بِفرِق” (ص. 69)، عذراً يا غسّان، قليل من الخيال مُجدٍ، ولكن يحذّر من الهوَس، وضروري أن يبقى صمام الأمان مع الاستمرار في حُلم التحرّر.
كم جميل أن ترافقه فرقة العاشقين في زنزانته لتمدّه بالأمل:
“الله الله يا مفرج المصايب
يا مين يرد شَمل الحاضر والغايب”
ينبّه إلى تجيير الاحتلال للتاريخ والجغرافيا، وسرقته ومصادرته للحجارة، ونقلها للمستوطنات لتزوير الحقائق الحضارية والتاريخية، وينبه كذلك إلى من يبيع هذه الحجارة للاحتلال من الفلسطينيين.
كم جميل أن تصل للأسير الأخبار أنّه ليس منسياً، وكم يفرح حين يخبرونه عن حفل عُرس لقريبه وهم في الدبكة والفرح يلوّحون بصورته ويُقبّلونها باشتياق. وكم هو مفجع أن يصله خبر وفاة قريب عزيز عبر المذياع! يصوّر بألم سماعه من المذيعة عبر الأثير خبر وفاة والدته يسرى، دون وداع، وسمعت هذا الوجع من أسرى كثر ممّن التقيتهم في السنوات الأخيرة. يا له من عذاب وقهر حين لا يستطيع الأسير وداع من يرحل إلى السماء ولو بنظرة من بعيد.
حظرت والدة سامر تحضير الفلافل في البيت حتى يعود، كما حظرت والدة هيثم تحضير المعكرونة، ووالدة كميل تحضير المنسف، ووالدة عنان أكلة المحشي.
يصوّر سامر حالة الأسير حين يصله خبر تحرّره بصفقة تبادل، أحاسيسه ومشاعره، والتحضيرات ولمّ أغراضه من صور ورسائل وإرث عشرات السنين من قصاصات ورق ومدونات… وتوديع الرفاق من الأسرى بمشاعر تختلط فيها دموع الفرح بالحريّة والحزن على من تبقّى خلف الزنازين.
يصوّر مشهديّة التحرّر والاحتفالات والاستقبال. راق لي حمله علم فلسطين بعيداً عن الفصائليّة والحزبيّة المقيتة “علم من أجله فقط أعتقل واستشهد وجُرح وأُبعد وهُجّر مئات الآلاف من أبنائه” (ص. 98)
يصوّر طقس تعوّد عليه الأسير الفلسطيني ساعة تحرّره؛ يصل بلدته فيعرّج أولاً على المقبرة لقراءة الفاتحة على أرواح أحبّته الذين فارقوا الحياة منذ فارقهم إلى عالم السجن، يزور “قبر أبيه وعمته وعمه وجاره وجارته وابن بلده، الفاتحة لكل أموات فلسطين نيابةً عن كلّ سُكّان السجون” (ص. 21)
كم هو جميل أن يفيق صباحيّته الأولى بعد التحرّر في حضن أمّه لتخبره بأنّه ليسَ حلماً!
وكم هو قاسٍ أن يعود لذلك المكان! حقاً الموت أرحم. نعم، عودة مُرّة.
جميل أن ألتقي أصدقائي بين دفّتي كتاب؛ عاصم ووليد دقة (رحمه الله) وصالح أبو مخ وحسام شاهين وغيرهم. نعم؛ اتفق مع سامر “لستُ كاتباً ولا راوياً لكنني أحاول سرد حكايتي الممتدة على مدى خمسة وعشرين عاماً في الأسر والسجون بكل تفاصيلها” (ص. 55)، فلكلّ أسير حكاية، وننتظر كتابتها لتكتمل الفسيفساء، ويقولها بصريح العبارة إنّ الكتّاب الأسرى هم الأقدر على كتابتها من غيرهم “كل الأمم التي كانت محتلة سطّرت مقاومتها في روايات الأدباء، وتاريخنا حافل في زخم أحداث متتالية، بهذا تتوفّر التربة الخصبة للكتّاب والأدباء في تخليد تاريخنا الإنساني لأجيال قادمة، فالتاريخ يجب أن يكتب بأقلامنا نحن الذين اكتوينا بنيران الاحتلال”. (ص110)، (الأسير سامر محروم معتقل منذ عام 1986، حكم بالمؤبد، وكان قد أُفرج عنه في عام 2011 في صفقة “وفاء الأحرار”، ليعيد الاحتلال اعتقاله في عام 2014، ليتحرر مرة أخرى في صفقات تبادل الطوفان).
نعم؛ الحرية ليست مجرّد راية تُرفع على بناية حكوميّة، إنما تكون بالتحرر النفسي من عُقد الهزيمة التي يحاولون زرعها في الأجيال القادمة.
يُنهي سامر بهدفه من الكتابة؛ “سطوري ليست نوعاً من الفنتازيا الأدبية في محاولة للظهور بموقف بطوليّ، وفقَ ما تقتضيه بعض الروايات لشد انتباه القارئ، بل هي للظهور بتواضع أمام عَظمة من ضَحوا بدمائهم على درب الحرية والاستقلال”.
عَنوَن مارتن لوثر كينغ خطابه الذي ألقاه عند نصب لنكولن التذكاري في 28 آب 1963 أثناء مسيرة واشنطن للحريّة “لديّ حلم”، وحلم سامر وكافّة أسرانا بالحريّة حتماً سيتحقّق!