اخر الاخبار

لحظات الفرح في أوقات الحزن الفلسطيني

أمد/ يبدو الحزن كالثوب الذي لا يخلعه الفلسطيني، إلا أنه على الدوام ينظر إلى لحظات فرحه كأزهار برية تنبت في واقع مؤلم وقاسي، وتتحدى القصف والموت والحصار والسياسات الإسرائيلية الرامية إلى تصفيته، واعتبر لحظات الفرح مساحة مقاومة وجدانية، يعيد من خلالها شيئاً من إنسانيته التي تحاول إسرائيل تشويهها وطمسها، الأمر الذي لخصه المفكر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد بقوله ” أن تكون فلسطيني هو أن تعيش في مواجهة الموت، ولكنك تختار في الوقت ذاته أن تحب، أن تفرح، أن تتزوج، وأن تحلم رغم كل ذلك.

تحولت لحظات الفرح في الحياة الفلسطينية إلى فعل مقاوم لشعب يحب الحياة ما استطاع إليها سبيلا، واعتبرت في السياق الاجتماعي للمجتمع الفلسطيني رسالة وجودية تؤكد على أحقية الشعب بالحياة والبقاء على الأرض، ورفضه لأن تتحول حياته لمجرد رد فعل على الألم. ونظر إليها باعتبارها تعبير صريح عن الحياة، وأنها ليست هروبا من الواقع بقدر ما هي بنية تحتية غير مرئية لمقاومة التآكل النفسي وتحصين للمجتمع من التفكك، فهي شكل من أشكال البقاء ليس فقط على قيد الحياة، بل على قيد الأمل.

فالفرح عند الفلسطيني ليس ترفاً ولا لحظة عبور، بل فعل مقاوم. أن يفرح الفلسطيني في ظلّ احتلال، تهجير، وحصار هو إعلان بأنّ الحياة ما زالت تسري في العروق، وبأنّ الأمل عصيّ على الموت. تراه يرقص في العرس، وفي عينيه دمعة لشهيد، يحتفل بنجاح ابنته وفي قلبه غصة على بيت مهدوم. إنه فرح مشوب بالحذر، لكنه فرح عنيد، لا يستسلم.

أما الحزن، فهو ليس ضعفًا، بل ذاكرة نابضة تذكّر الفلسطيني بجذوره، بحقوقه، وبوجعه المتجذر في الأرض. الحزن الفلسطيني ليس بكاءً على الأطلال، بل قوة داخلية تُحرك الشعور بالانتماء وتغذي الإرادة بالعودة والتحرر. هو جزء لا يتجزأ من الهوية، تمامًا كالكوفية، كمفتاح العودة، كصورة الجد على جدار البيت.

يؤكد المنظور السوسيولوجي على أن لحظات الفرح والحزن في مجتمعات الصراع هي بمثابة أدوات فعالة لتعزيز الهوية الجماعية وتجديد الروابط الاجتماعية، حيث من المفترض أن تعزز تلك اللحظات الإحساس الجمعي بالانتماء والهوية الجمعية، وأن تساهم في إعادة إنتاج العائلة الكبيرة والدم الواحد وكلها ضرورية في الحالة الفلسطينية التي تعاني من الإبادة والتهجير والانقسام الجغرافي والسياسي.

بالرغم من ذلك فأن لحظات الفرح الفلسطيني غالبا ما تكون محاطة بالشعور بالذنب، وكأن الفرح خيانة للدم أو تجاهل للنكبات المتواصلة، وهو ما عبر عنه الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله بقوله” نفرح بصمت، ونضحك بحذر، وكأن ضحكتنا قد توقظ الغائبين من قبورهم.

تفسر حالة الازدواجية الشعورية التي شكلت على الدوام البنية العاطفية للمجتمع الفلسطيني، حالة الاشتباك التي فجرها الاحتفال بافتتاح مول في رام الله في الأيام الماضية، والذي تباينات فيه ردود الفعل بين رافض ومدافع عن المشاهد المبالغ بها في الاحتفال في الوقت الذي يشهد قطاع غزة حرب إبادة ممنهجة منذ أكثر من عام ونصف ولا تزال، فيما تشهد مدن شمال الضفة الغربية هجمة إسرائيلية شرسة على الحياة الفلسطينية هناك.

نجح الفلسطينيون في تمرير لحظات فرحهم خلال انتفاضة الحجارة، ضمن السياق العام المتوازن بين الفرح كلحظة مقاومة وجدانية، واحترام حجم الألم اليومي، وبهذا المنطق كانت ثقافة الحياة والفرح واضحة ومقنعة دون التباس أو تشوه في المفاهيم أو المنطلقات الاحتفالية على الرغم من طبيعتها وتعددها اليومي.

كشفت مظاهر الفرح المبالغ بها في افتتاح مول رام الله عن الدور الخطير الذي يلعبه الاحتلال ليس في السيطرة على الأرض فقط، ولكن في إعادة تشكيل البنية الاجتماعية والثقافية في حياة الفلسطيني، والتي سعى الاحتلال لفرضها في الواقع الفلسطيني، من خلال سياسة التمايز المناطقي التي عززها طوال السنوات الماضية في إطار محاولته لتفكيك البنى المجتمعية، وضرب قيم التلاحم الوطني والتضامن الاجتماعي، وهي أبرز الدروس والعبر والاستخلاصات التي خرج بها الاحتلال بعد انتفاضة الحجارة في العام 1987، والتي قدم فيها الفلسطينيون أعظم ملامح التلاحم الوطني في مواجهة الاحتلال ومقاومته، وتجسيد الهوية الجمعية للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال.

هدفت سياسة التمايز الإسرائيلي إلى ضرب المفاهيم الجمعية للشعب الفلسطيني، وتعزيز الفردانية والمناطقية بين صفوف الفلسطينيين من خلال خلق هموم متباينة وتحديات مختلفة بحسب الجغرافيا الفلسطينية، وذلك لتفتيت الهم الجمعي الفلسطيني لصالح هموم جزئية مختلفة ضمن سياقات مكانية، تعززها سياسة الفصل المكاني والزماني بين التجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

زاد الانقسام السياسي الفلسطيني لاحقا الطين بلة حين أدى لفصل واقع قطاع غزة عن الضفة الغربية، وأدى لتنامي صور نمطية سلبية ومتباينة لكل تجمع عن الأخر، وباتت معها عمليات الاتهام والتشويه هي المحدد الرئيسي للمواقف وردود الفعل من كافة الأحداث الجارية في السياق الفلسطيني.

يبرر البعض في دفاعه عن مظاهر الفرح الفردي بالنجاح أو الزواج أو حفلات افتتاح المشاريع الاقتصادية باعتبارها جزء من قيم ومفردات النيوليبرالية الجديدة ومفاهيمها، والتي تعزز الفردانية؛ وهذا صحيح إلا أنه في السياق الفلسطيني لا يجب أن يقوم على حساب الفعل الجمعي، حيث أنه من الأهمية الإشارة إلى أن سياق الإبادة والتهجير والظلم التاريخي الذي يعيشه الفلسطيني، كان يتطلب منه التمييز بين حقه في الاحتفاء الفردي بالنجاح، وبين احترام حجم الألم الجمعي، وهو ما جعل الاحتفال بعيد كل البعد عن العمل الوطني الجمعي.

إن مشاهد الفرح التي حظي بها افتتاح المول كانت بمثابة ورقة عباد الشمس التي عرت قيم التلاحم الوطني، وكشفت عن أزمة الهوية الجمعية التي تعاني من ضربات تفكيكية بفعل السياسات الإسرائيلية من ناحية، ومن الانقسام السياسي الداخلي من ناحية أخرى، وتنامي قيم الفردانية الليبرالية من جهة ثالثة.

يجب أن تضعنا حالة التناقض التي شهدها افتتاح المول في رام الله، أمام مسئولية جماعية تتمثل في الكيفية التي يجب من خلالها إعادة بناء علاقة الشعب مع قضاياه المصيرية تحت الاحتلال، إلى الكيفية التي يحب أن نربط بها الحياة بالكرامة، والفرح بالمقاومة والتلاحم.

إن ما حدث لا يجب النظر إليه باعتباره خللاً فرديا، بل ظاهرة اجتماعية معقدة، تشكلت عبر عقود من الاحتلال الكولونيالي الذي لم يسرق الأرض فحسب، بل حاول بكل الطرق إعادة تشكيل وعينا وثقافتنا ونظرتنا لأنفسنا وقضايانا.

إن ما نحتاج إليه هو إعادة الاعتبار لترميم الوعي الجمعي للشعب الفلسطيني والذي تعرض ولا يزال لتشوهات بنيوية، بما يتجاوز جلد الذات أو توجيه اللوم والاتهامات، ويذهب نحو بناء لغة جمعية جديدة قائمة على التفاهم والالتقاء واحترام الاختلاف. ولكي نصل لذلك فأن المطلوب تجديد المفهوم الوطني، من خلال مشروع سياسي ثقافي واجتماعي يضع الإنسان في قلب المعادلة الوطنية، ويعيد للكرامة معناها البسيط والعميق: أن تكون حاضرًا، واعيًا، فاعلًا، ومتصالحًا مع ألمك وأملك معًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *