اخر الاخبار

لا خيـر في الأمة ما لم تتقـن أعمالهـا

 هناك كلمة دارجة يتمثل بها كثير من الناس في العصر الحاضر في سياق مختلف كلية عن سياق نشأتها ومعاكس له، حيث كانت تقال عند نشأتها مدحا لمن قيلت فيهم، ثم مع كرّ الدهور ومرّ العصور انقلب حالهم فانقلب توظيفها، فصارت تقال ذمّا لهم، هذه الكلمة هي قولهم: (Travail arabe)، إذ كان الأوربيون يقولونها تعجبا واستحسانا للعمل المتقن الجيد، حين كان المسلمون [العرب أو الترك عند الأوربيين غالبا يراد بها المسلمون] ملتزمين بدينهم متحضرين، يتقنون ما يفعلونه دينا وتقوى، فكان ما ينتجونه الغاية في الإجادة والإتقان، يعجب له الأوربيون وغيرهم ويمدحونه، ولكن دوام الحال من المحال، تنصل المسلمون من دينهم شيئا فشيئا ونقضوا عُراه عروة عروة، وأدى ذلك إلى تراجعهم في سلم الحضارة شيئا فشيئا ودرجة درجة، حتى خرجوا من نطاقها، وصاروا على هامشها، وقل ما شئت بعد عن آثار ذلك في تاريخهم وواقعهم.

إن الإسلام هو الدّين الوحيد الذي يجعل الإتقان والإجادة والإحسان واجبات يجازى عليها العبد إن حققها، ويعاقب عليها إن فرط فيها وقصر. وأمم الأرض تتقن أعمالها اليوم لدواعٍ مادية واقتصادية وقانونية، فرضتها عليهم المنافسة الاقتصادية وما تطلبته من معايير دولية، واقتضاها حرصهم على مصالحهم ومنافعهم، والمسلمون كونهم بشرا كالبشر يشتركون مع أمم الأرض في هذه الدواعي، ويزيدون عليهم بالداعي الديني الإيماني، الذي يوجب على المسلم إتقان عمله صغيرا كان أو كبيرا، إلزاميا أو تطوعا، وبتعبير آخر: إن الإتقان عند غير المسلمين مصلحة ومنفعة، والتقصير فيه يسبب خسارة دنيوية، والإتقان عند المسلمين مصلحة وعبادة، والتقصير فيه يسبب خسارة دينية ودنيوية، فكان المفروض أن يكون المسلم أحرص الناس على الإتقان والإجادة والإحسان، بيد أن الواقع غير ذلك، وهذا عجب من العجب!.

قد يستغرب بعضهم قولي: إن الإتقان والإجادة واجب ديني وعبادة شرعية، ولا أستغرب ذلك، فكثير من المعاني الدينية تشوهت عند الناس، وكثير منها غابت أو غيبت عنهم، وحين ضربتنا موجات العلمانية والحضارة المادية المتكررة، مع جهل أكثرنا بمعاني الدين الحق، واختلال فهم الأكثرين لها، وشيوع أنماط التدين المغشوش والخاطئ جُهلت الكثير من المعاني الجليلة لديننا، وضاق معنى الدين ومجاله عند أغلب الناس إلا قليلا. ورغم ذلك فإن الإتقان والإجادة والإحسان عبادة مطالب بها المسلم بلفظ صريح، وليس استنباطا واستنتاجا، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» رواه البيهقي، وفي رواية: «إن الله تعالى يحب من العامل إذا عمل أن يحسن»، قال الشراح: “إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا” دينا أو دنيويا “أن يتقنه” الإتقان الإحسان والتكميل أي يحسنه ويكمله. قال الإمام المُناوي في شرحه له: “فعلى الصانع الذي استعمله الله في الصور والآلات والعدد مثلا أن يعمل بما علمه الله عمل إتقان وإحسان بقصد نفع خلق الله الذي استعمله في ذلك”.

ومن الهام هنا التأكيد على أن كثيرا من الناس يخطئون في فهم الإحسان، فيظنون أن معناه منحصر في الإفضال والإنعام على الغير والتطوع بالخير، وهذا غير صحيح، فهذا الشائع هو أحد معنيي الإحسان في العربية، قال الإمام مجد الدين الفيروزآبادي؛ صاحب ‘القاموس المحيط’: (والإِحسان يقال على وجهين. أَحدهما: الإِنعام على الغير: أَحسن إِلى فلان [أنعم عليه]. والثاني: إِحسان في فعله، وذلك إِذا علم علما حسنا أَو عمل عملا حسنا). فالإحسان إنعام وإفضال، وهو أيضا إجادة وإتقان. ومن هذا قول الله تبارك وتعالى: {الذي أحسن كل شيء خلقه} قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها). وقوله تعالى عن سيدنا يوسف عليه السلام: {إنا نراك من المحسنين} قال الإمام ابن عاشور رحمه الله: (أي المحسنين التعبير، أو المحسنين الفهم. والإحسان: الإتقان).

وقول النبي صلى الله عليه وسلم جوابا لسؤال جبريل عليه السلام في الحديث الشهير: “أخبرني عن الإحسان؟ أو ما الإحسان؟”، قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» رواه البخاري ومسلم. معناه: إجادة العبادة وإتقانها، مصدر أحسنت كذا إذا أتقنته وأجدته؛ ذلك أن من يبلغ في عبادته هذه الدرجة التي ذكرها عليه السلام، هو بلا ريب مجيد متقن للعبادة، قال الإمام مُلّا علي القاري رحمه الله في شرحه لهذه الجملة من الحديث: (والأظهر أن المراد به إحسان العمل، وهو إحكامه وإتقانه، وهو يشمل الإخلاص، وما فوقه من مرتبة الحضور مع الله)، وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (لأن كل من عبد الله على هذا الوصف فلا بد أن يقع في قلبه من محبة الله وتعظيمه ما يحمله على إتقان العمل وأحكامه). وحتى ما ورد عن الفضيل بن عياض رحمه الله في معنى: {أحسن عملا} قال: أخلصه وأصوبه، أي: أن يكون أخلص الأعمال وأصوبها. فإن (أصوبه) لا تتحقق إلا بإجادته وإتقانه.

وعلى هذا فإن الابتلاء الذي قام عليه التكليف بالإسلام إنما هو اختبار في الإتقان، حيث يقول الحق سبحانه: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا}، {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}، فالحساب ليس على العمل، هل عملت أم لا؟ بل على الإحسان والإتقان هل أحسنت العمل وأتقنته أم لا؟. فما حال الأمة الإسلامية مع الإتقان؟

إني أقول جازما متيقنا: إن الأمة الإسلامية لن ترتفع لمقام الخيرية التي أكرمها الله جل شأنه به: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، حتى تتقن أعمالها كلها، ويصير إتقان العمل وإحسانه صفة مميزة لها، محققة مطبقة لقول النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» رواه مسلم. والإحسان الإجادة والإتقان، قال الإمام عبد الحق الدهلوي رحمه الله: (إحسان العمل إتيانه على وجه الإكمال والإتقان)، ومعنى الحديث: واجب عليكم الإحسان / الإتقان في كل شيء صغيرا أو كبيرا أو حقيرا. وفي هذا بلاغ.

* إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *