لا خير في الأمّة ما لم تأمر بالمعروف وتنهَ عن المنكر
لا يعلو الباطلُ في مجتمع إلاّ بتخاذل أهل الحقّ، ولا تشيع فيه الفاحشة إلاّ بتفريط أهل العِفّة، ولا يطغى فيه الفساد وأهله إلّا بتقصير أهل الصّلاح، ولا تنتشر فيه الفواحش إلاّ بتقاعس أهل الطّاعة، ولا يظهر فيه الفجور إلاّ بانكماش أهل الخير، ولا يظهر المنكر إلاّ عند خُفوت صوت أهل المعروف.
هذه حقائقُ نحياها ونلمسها في واقعنا المعيش، ونشتكي منها ومن آثارها، التي لم يسلم منها ومن غبارها أحد. وكيف لا نعيش هذا الوضع الحرج ونحن قد (طبّعنا) مع المنكر والفساد والمعاصي والفجور؟!، لا نعرف معروفا ولا ننكر منكرا!، أهل المنكر والشّرور والفجور يزدادون قِحةً وجُرأة، وأهل المعروف والخير والمعصية يزدادون تقاعسا وتخاذلا وانشغالا بالسّفاسف!. كيف لا نعيش هذا الواقع النّكد وأغلبنا صار شعارُه شعارَ جحا: (تخطي راسي!)، فقد غلبتنا روح الحضارة المادية الغربية، وهي حضارة قائمة على الفردية المولِّدة (للأنانية)، يعيش فيها الفرد لنفسه، للذاته ونزواته وشهواته وآماله هو فقط، ولا يهمه الآخرون، فلا يشعر بهم ولا يهتم لأمرهم، إن حدث وشاركهم في معروف فلن ينهاهم عن المنكر أبدا؛ لأنّهم أحرار!، فلا يحقّ له التّدخل في شؤونهم ولا إنكار شرورهم وشذوذهم!، وهذا ما صار يفكر به ويؤمن كثير منّا اغترارًا بنمط عيش الغربيين، فلو حدث أنّ أحدنا أمر بمعروف أو نهى عن منكر لجُوبه بالكلمة الشّهيرة: (واش دخلك؟!)، وربما قيل له: (دبّر على قَمَجْتك!). وليس هذا من الإسلام في شيء، بل هذا تقليد أعمى للغرب!، واغترار أغبى بدعاوى الحرية الوهمية!، وانغماس في أوحال الفردية المقيتة (والأنانية) البغيضة!.
إن القرآن الحكيم يوكّد توكيدا صارمًا أن من أخصّ صفات المؤمنين أمرَهم بالمعروف ونهيهَم عن المنكر، إذ يقول الحقّ سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم}، وانظر كيف قدّم ذكر الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على ذكر الصلاة التي هي عماد الدّين، وعلى الزكاة وهي ركن من أركان الإسلام، وعلى طاعة الله ورسوله التي هي شعار الإيمان، وما هذا إلّا اهتماما بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وتفخيمًا لشأنه وتعظيمًا لهما، وتنبيهًا على وجوب اتصاف المؤمنين بهما، وفي مقابل ذلك نجد القرآن الحكيم يوكّد توكيدا صارمًا أن من أخصّ صفات المنافقين، الأمرَ بالمنكر والنّهيَ عن المعروف، إذ يقول الحقّ سبحانه: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون}، والأمران متلازمان حين يترك المؤمنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يظهر فينا من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، حتى حدث في الجزائر أن عجوزا شمطاء قليلة العقل، قليلة الأدب، سليطة اللسان انزعجت وثارت؛ لأن بعض الطالبات سترن أنفسهنّ، وارتدين اللباس الشرعيّ الذي يستر زينتهن عن الأجانب، ويحصنهنّ من (تحرّش) الأغراب الذئاب، فقامت تدعوهنّ للتعرّي، وتلعن من دعاهنّ للعفة والسّتر!. وسنرى أعجب من ذلك!؛ لأنه حين يغيب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في حياتنا ينفتح المجال أمام النّفاق الاجتماعي بكلّ صوره، وتنفتح الأبواب لكلّ مريض نفسي وصاحب عاهة وعبد شهوة؛ ليعيش الفساد والانحراف على هواه وينشرهما بيننا بحرية.
لقد سكتنا على منكرات صغيرة فغشيتنا منكرات أكبر ما لها من تلاف، سكتنا على الرّشاوي الصّغيرة (القهوة!) فدهتنا الرّشاوي العابرة للقارات! في سوناطراك واحد واثنين إلى ما لا نهاية!، سكتنا على قطع الطّريق لسرقة بعض المال أو الهواتف فوصلنا إلى اختطاف الأطفال طلبًا للفدية أو تمتعًا بقتلهم!، سكتنا على انتشار التّدخين وبيع الخمور فغشيتنا المخدرات في شوارعنا ومدارسنا، سكتنا على الحشيش فوصل الأمر إلى الهرويين والكوكايين!، سكتنا على تعريّ بناتنا واللّباس الفاحش الذي ترتديه كثير من المتسكّعات في ثانوياتنا وجامعاتنا وطرقنا فوصل الأمر إلى ظهور طبقة الأمهات العازبات!، وكيف تكون الأم عازبة لولا الفسوق والفجور والحُمق!، سكتنا على التّقليد الأهوج للغرب، وتشبّه الذّكور بالإناث والإناث بالذّكور فوصل الحال إلى عدم التّفريق بين الرجل والمرأة لا لباسا ولا هيئة ولا نفسية في أكثر الأحوال!… إلخ.
إنه واهم إن لم يكن غبيًّا أحمقا! من يظنّ أنه يمكننا ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ومخالفة أمر الله تعالى بذلك ثم نعيش في طمأنينة، ويكون مجتمعنا في سلام وأمن، أنه يمكننا التّفريط في هذا الركن العظيم من أركان الإسلام ونكون بأمان من الفساد والشّرور، ونكتفي بالابتعاد عنهما، وبعدم المشاركة فيهما، وبالتّدين السّلبيّ الذي يتفرج على الفجور والفسوق والفساد والانحراف ينتشرون ويسيطرون مكتفيّا بالاستعاذة منها ولعن أهلها!. فعن أبي بكر الصّديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن النّاس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يُوشِك أن يعمهم الله بعقابه»، وفي رواية: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثمّ يقدرون على أن يغيّروا، ثمّ لا يغيّرون إلّا يُوشك أن يعمهم اللهُ بعقاب» رواه أصحاب السنن. وعن حذيفة عن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتَأمُرُنّ بالمعروف، ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» رواه الترمذي.
إننا لن نفلح أبدا وأهل الفساد والفسوق والفجور والشّرور يعربدون جهارا نهارا وافتخارا، وأهل الخير والصّلاح والطّاعة متوارون مفرطون، مستقلّون عن الاهتمام بالشّأن العام، وهذا قول ربّ العالمين وأحكم الحاكمين: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}، ولن يكون في أمتنا خيرًا، ولن تنال خيرًا ما لم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تمت كلمات الله تعالى بذلك صدقا وعدلا: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}، وإنّما قدّم الأمر بالمعروف على الإيمان بالله في الذّكر مع أن الإيمان مقدّم على كلّ الطّاعات؛ لأن الآية سيقت لبيان خيرية الأمة، وأنها لا تتحققّ إلاّ بتحقيق المؤمنون لهذا الواجب العظيم، وبيان أن القيام بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من أقوى الأدلة على صدق الإيمان وتمكنه في قلب صاحبه؛ ذلك أن الإيمان يمكن ادّعاؤه، ولا يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا مؤمن صادق الإيمان.
* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة