اخر الاخبار

كُحل العيد”.. غزة ترسم الضحكة على جراحها

أمد/ وقفتُ أمام المرآة، فرأيتُ بقعة سوداء من رماد الحطب تلطخ جبيني، أثرٌ يومي من أيام الطهي على النار، بعد أن غاب الغاز عن بيوتنا. للحظة، راودتني فكرة محوها، لكن سرعان ما تراجعت، بل ضحكتُ، وكبّرتُ البقعة، رسمتُها كما ترسم الهنديات نقطة السعادة بين حاجبيهن، وهمستُ لنفسي: “كل عام وأنا أضحك رغم جراح مدينتي”.

هكذا كان عيدنا، عيدًا يمزج بين مرارة الفقد وحلاوة الضحكات المسروقة، عيدًا لم يشبه أي عيد مضى.

في كل بيت هنا، غاب وجه عزيز، صوت ضحكة، أو لمسة حنان. الأطفال، بأعينهم البريئة، وجدوا أنفسهم فجأة في حضن اليتم، والأمهات، بقلوبهن المكلومة، يفتشن عن بقايا وجوه أحبابهن بين الأنقاض. حتى من لم يفقد أحدًا من عائلته المباشرة، اكتوى بنار الفقد الجماعي، فقد خسر جارًا، صديقًا، أو قريبًا.

أما مائدة العيد، فقد كانت قصة أخرى تروي صمودنا.

الفسيخ، سيد المائدة في الأعياد الماضية، غاب عن معظم البيوت، فارتفاع سعره الجنوني، 150 شيكلًا للكيلو، جعله حلمًا بعيد المنال.

لكننا لم نستسلم، حولنا علب السردين المعلب إلى فسيخ مؤقت، متحدين الحصار، ومقنعين أنفسنا بأننا سنحتفل بالعيد رغم أنف الظروف.

لم نكترث لمخاطر قلي السردين المعلب، فكل ما حولنا هنا يحمل خطرًا صحيًا، فقلنا: “لن يضرّنا شيء بعد كل ما مررنا به!” وضحكنا من عبثية الأمر.

الكعك، رمز العيد، غاب أيضًا عن أغلب البيوت، فأسعاره الخيالية لم تكن المشكلة الوحيدة، بل الجيوب الخاوية كانت العائق الأكبر، فالحرب استنزفت كل شيء، حتى الرواتب لم تُصرف.

أما الأطفال، فقد كان عيدهم أبسط مما تخيلتُ، وأشد قسوة مما يستحقون.

اقتصرت ألعابهم على “المزمار”، أرخص لعبة في الأسواق، وحتى هذه لم يستطع كل طفل امتلاكها. لكنهم، رغم كل شيء، نفخوا فيها بحماسة، وكأنهم يبعثون برسالة وسط الموت: “نحن نحب الفرح.. أعيدوا إلينا حياتنا!”

في غزة، حيث تتداخل أصوات القصف مع همسات العيد، لم نستسلم لليأس.

حولنا رماد الحطب إلى كحل للعيون، وحولنا علب السردين إلى فسيخ مؤقت، وحولنا المزمار إلى أغنية للحياة.

نحن لا نعرف متى يعود العيد كما كان، لكننا نعرف أننا ما زلنا هنا، نعيش، نتمسك بالحياة رغم كل شيء.

عيدٌ مباركٌ يا أمة.. من غزة التي تكتب بأصابع ملوّنة بسواد الفحم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *