أمد/ كان السابع من أكتوبر ردّة فعلٍ طبيعية ومبرّرة، إذ خضع قطاع غزة لحروب متوالية مؤذية، ولابتزازات مجحفة، ولحصار خانق. وكانت المقدّسات عرضة للتدنيس، فيما تسارع الاستيطان وانفلات المستوطنين المسلّحين بشكل مفزع وحاقد، وبدعم من حكومة اليمين الحاخامي، الذي حاول إنهاء القضية الفلسطينية، ومنع الكلام حولها، بعد أن أصدر قرارا يمنع إقامة دولة فلسطينية، في الوقت الذي انفتح فيه جريان التطبيع العربي مع دولة الاحتلال، تحت مسمّيات شتى ومن بوّابة الإبراهيمية! ورأينا كيف طوى العالَمُ صفحةَ فلسطين ومسألتها، ولم تعد على أيّ أجندةٍ إقليمية أو دولية.
لقد أثبتت إسرائيل، خلال عدوانها السافر المتواصل هذا، بكل كتلتها البشرية، أنها نقيضنا الكامل، غير القابل للتفاهم أو التعايش معه. وقد رأينا إشارات حاسمة، على مدار عقود، بأن هذا الكيان غير قابل لأيّ شكل من صور القبول أو التعاون أو القبول. وبقيت نتيجة واحدة هي: إما نحن وإما هم، على هذه الأرض، إن ظلّوا على حالهم ومواقفهم..
وبعد مرور 24 من الشهور الثقيلة، على هذه الإبادة المحرقة غير المسبوقة، نؤكد على أن الشعب الفلسطيني انتظر 76 عاما من الصمت العالمي والعربي، على وجود إسرائيل الناتئ، إلى أن توحّشت، فاضطر أن يجابه غوليّتها وصلفها، ويدفع ثمن مواجهتها، من دمه ولحمه وبيوته وأشجاره ومؤسساته. بمعنى؛ أن غزة تدفع ثمن صمت الكوكب، الطويل والمشبوه. كما نؤكد على أن الانسان الحرّ الجامح والمصمم على نيل حقوقه يستطيع أن ينتصر على التكنولوجيا والذكاء الصناعي، وأن “السوبرمان” هو الإنسان وليس الآلة. فبعد عامين، من القصف والاجتياحات، والأرض المحروقة، لم يستطع الاحتلال من تحقيق أهدافه المتمثلة باجتثاث المجابهة، وتحرير أسراه، وتحقيق الأمن والهدوء لمستوطناته، بالقوّة العسكرية. وأن إسرائيل فقدت، وللأبد، الأمن، إذ بعد كل ما جرى لن تهنأ بيوم من الهدوء! وبمعنى أن الشعب الفلسطيني، ومهما تطاول الزمان، لن يقرّ ولن يفتر حتى ينال حقوقه المشروعة.
وإن ما قام به نتنياهو لا يعدو كونه محاولة صارمة وحاسمة وشرسة لإعادة ضبط الإقليم، بالقوة، وعلى مقاس مصالحه ومصالح داعميه الأمريكان. وربما استطاع تثبيت نقاط متقدمة، بسبب غياب الندّ العربي له والمانع لما يقوم به. ولكننا رأينا أن نتنياهو فشل في ذلك..كما أن فظائع إسرائيل دفعت الأنظمة العربية إلى التحفّز والانتباه إلى أن إسرائيل صاحبة شهوات ينبغي التصدّي لها..
وأن الدول الغربية التي اعترفت بفلسطين مؤخّرا، هم حلفاء تقليديون لإسرائيل ، ودولٌ لها ثقلها الكونيّ، وستترك أمريكا وحدها المناوئة للحقّ، وستعزلها عن كلّ الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وستضغط على إسرائيل، التي ستكون كلّ إجراءاتها، من ضمّ واستيطان في الضفة الغربية، لا شرعية له في الميزان، لأنها أراضي دولة أخرى. بمعنى؛ أن إسرائيل التي اعتمدت على شبكة الاعتراف العالمي بها، بعد الحرب العالمية الثانية، نراها وقد فقدت هذه الشبكة، التي تقطّعت، بعد أن خسرت إسرائيل “صورةَ الضحيّة”، ما ساعد الغرب على أن يتحرّر من عُقدة الهولوكست، التي ابتزّت إسرائيل عبرها، الدنيا بأسرها، بعد فظاعاتها في غزّة، التي لم يحتملها الضمير العالمي، على رغم عجزه وهشاشته، وهذا ما فجّر الاحتجاجات في أنحاء المعمورة، فأصبحت شوارع العالَم فلسطينية، وأكتشفت الشعوبُ نفاق أنظمتها، وتماهيها مع القاتل المستبيح، ما دفع الحكومات للاستجابة لنداءات شوارعها، لتنفيسها، وتقدّم شيئا ما للضحيّة الفلسطينية، فكان من ذلك؛ الاعتراف بفلسطين. أي أن السبب الرئيس الذي دفع العالَم نحو الاعتراف، هو؛ الدم المتفجّر في غزّة، ومشاهد الجرائم المدوّية في القطاع، أولاً، إضافة إلى تاريخ متراكم من الحراك السياسي والنضالي والدبلوماسيّ الفلسطيني، وما فعلته الدبلوماسية الشعبية، من جاليات وقوى ناعمة وأهلية، ساهمت في تخليق مزاج رافض للاستباحة الصهيونية، خضّ العالم، ودفعه نحو اتخاذ ما يلزم من مواقف واجبة الوجود. وأن الحديث عن إنهاء الحرب بعد عامين يؤكد فشل إسرائيل في تحقيق الأهداف التي أعلنتها، بالقوة..وأن الشعب الفلسطيني، الذي ضرب مثلا أسطوريا في الصمود، رغم الموت والجوع والعراء والأمراض والملاحقات النارية، في طريقه نحو الخلاص، بفعل ما حدث قبل عامين، والذي بدّل المعادلات وقلبها رأسا على عقب.
وباختصار؛ فإنَّ العدوان الاسرائيلي المتكرّر على غزة بحجمه ووسائله ونتائجه كشف مرّة واحدة وإلى الأبد أن إسرائيل، ومن خلفها أمريكا، اختارت القوّة والقوة فقط للتعامل مع المنطقة، وبهذا فقد اختارت الطريق الأسهل للتآكل والانفجار.
والعدوان؛ ورقة التوت الأخيرة التي سقطت عن عورة الأيديولوجيا الصهيونية، وجذرها التلمودي التوراتي القائم على فكرة التفوّق العرقي والإثني.
كما أن العدوان قد كشف المواقف جميعاً، كشف أصول ومنابع الخطابات الثقافية المستمرة عبر حقب طويلة من الزمن. فاسرائيل هي رؤية الغرب لمنطقتنا وشعوبنا وقضايانا، وإسرائيل هي الدليل على صدق الرؤى والنبوءات، وهذا دليل آخر قوي وملموس على أثر الرؤية الثقافية على مجمل السياسات الدولية، فالقرار السياسي ليس مصالح فقط، بل هو مبادىء ومرجعيات واختيارات ثقافية..أيضاً.
والعدوان على غزة كشف كيف أن دوائر القرار الغربي الاستعماري اختطفت كل شيء؛ القرار الدولي والهيئات الدولية والأنظمة المرتبطة وشاشات التلفزيون، ذلك لأن الأمر ببساطة شديدة يكمن في أننا اكتشفنا جميعاً أن اسرائيل هي دولة غربية أوروبية بيضاء استعمارية تخدم المخطط العدواني القديم، ذلك المخطط الذي من أجله احتُلت القدس في القرن الحادي عشر ثم احتلت في القرن العشرين مرة أخرى. ذات المخطط وذات الاهداف.
والعدوان على غزة أيضاً، كشف عنّا الغطاء، وأسقط ورقة التوت عن عورات أنظمتنا وخطابنا وأدائنا كذلك. وكشف رعب الأنظمة وخوفها ومدى بطشها، كشف تخاذل الكثير من المؤسسات غير الحكومية والمثقفين وانحيازاتهم المشبوهة، وكشف نقص الوعي وتبعثره وتوجهه إلى مهالك الهوى والغرض والمصلحة، كشف انحياز بعض النخب إلى أعدائها، أو إلى الصمت المشبوه، عندما تحين ساعة الحسم والحزم. وكشف مدى اختراق العدو لنسيجنا الاجتماعي والاقتصادي والأمني والسياسي، وكشف ضعف وهشاشة المجتمع المدني لدينا، وكشف ارتباطاتنا وصفقاتنا، ووهن إعلامنا وسكوت معظم كتّابنا الذين يبحثون عن خلاصهم الشخصي!
والعدوان على غزة كشف الانحيازات والاستقطابات والاصطفافات، وكشف الهزيمة التي تعشّش في صدور كثير منّا، ذلك الذي ادّعى الواقعية والمرونة والفهم والتفهّم. وبالمقابل، كان هذا العدوان المجرم دافعاً إلى الرؤية الواقعية الحقيقية، فاسرائيل النووية ضعيفة من داخلها، فجغرافيتها وديموغرافيتها وبنُيتها الاجتماعية والاقتصادية لا تحتمل المقاومة ولا الصمود، ولا تحتمل المواجهة الحقيقية والإرادة الصلبة والموقف السياسي المبني على مصالح الأُمّة.
كشف سنتين من الإبادة
المتوكل طه
***
كان السابع من أكتوبر ردّة فعلٍ طبيعية ومبرّرة، إذ خضع قطاع غزة لحروب متوالية مؤذية، ولابتزازات مجحفة، ولحصار خانق. وكانت المقدّسات عرضة للتدنيس، فيما تسارع الاستيطان وانفلات المستوطنين المسلّحين بشكل مفزع وحاقد، وبدعم من حكومة اليمين الحاخامي، الذي حاول إنهاء القضية الفلسطينية، ومنع الكلام حولها، بعد أن أصدر قرارا يمنع إقامة دولة فلسطينية، في الوقت الذي انفتح فيه جريان التطبيع العربي مع دولة الاحتلال، تحت مسمّيات شتى ومن بوّابة الإبراهيمية! ورأينا كيف طوى العالَمُ صفحةَ فلسطين ومسألتها، ولم تعد على أيّ أجندةٍ إقليمية أو دولية.
لقد أثبتت إسرائيل، خلال عدوانها السافر المتواصل هذا، بكل كتلتها البشرية، أنها نقيضنا الكامل، غير القابل للتفاهم أو التعايش معه. وقد رأينا إشارات حاسمة، على مدار عقود، بأن هذا الكيان غير قابل لأيّ شكل من صور القبول أو التعاون أو القبول. وبقيت نتيجة واحدة هي: إما نحن وإما هم، على هذه الأرض، إن ظلّوا على حالهم ومواقفهم..
وبعد مرور 24 من الشهور الثقيلة، على هذه الإبادة المحرقة غير المسبوقة، نؤكد على أن الشعب الفلسطيني انتظر 76 عاما من الصمت العالمي والعربي، على وجود إسرائيل الناتئ، إلى أن توحّشت، فاضطر أن يجابه غوليّتها وصلفها، ويدفع ثمن مواجهتها، من دمه ولحمه وبيوته وأشجاره ومؤسساته. بمعنى؛ أن غزة تدفع ثمن صمت الكوكب، الطويل والمشبوه. كما نؤكد على أن الانسان الحرّ الجامح والمصمم على نيل حقوقه يستطيع أن ينتصر على التكنولوجيا والذكاء الصناعي، وأن “السوبرمان” هو الإنسان وليس الآلة. فبعد عامين، من القصف والاجتياحات، والأرض المحروقة، لم يستطع الاحتلال من تحقيق أهدافه المتمثلة باجتثاث المجابهة، وتحرير أسراه، وتحقيق الأمن والهدوء لمستوطناته، بالقوّة العسكرية. وأن إسرائيل فقدت، وللأبد، الأمن، إذ بعد كل ما جرى لن تهنأ بيوم من الهدوء! وبمعنى أن الشعب الفلسطيني، ومهما تطاول الزمان، لن يقرّ ولن يفتر حتى ينال حقوقه المشروعة.
وإن ما قام به نتنياهو لا يعدو كونه محاولة صارمة وحاسمة وشرسة لإعادة ضبط الإقليم، بالقوة، وعلى مقاس مصالحه ومصالح داعميه الأمريكان. وربما استطاع تثبيت نقاط متقدمة، بسبب غياب الندّ العربي له والمانع لما يقوم به. ولكننا رأينا أن نتنياهو فشل في ذلك..كما أن فظائع إسرائيل دفعت الأنظمة العربية إلى التحفّز والانتباه إلى أن إسرائيل صاحبة شهوات ينبغي التصدّي لها..
وأن الدول الغربية التي اعترفت بفلسطين مؤخّرا، هم حلفاء تقليديون لإسرائيل ، ودولٌ لها ثقلها الكونيّ، وستترك أمريكا وحدها المناوئة للحقّ، وستعزلها عن كلّ الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وستضغط على إسرائيل، التي ستكون كلّ إجراءاتها، من ضمّ واستيطان في الضفة الغربية، لا شرعية له في الميزان، لأنها أراضي دولة أخرى. بمعنى؛ أن إسرائيل التي اعتمدت على شبكة الاعتراف العالمي بها، بعد الحرب العالمية الثانية، نراها وقد فقدت هذه الشبكة، التي تقطّعت، بعد أن خسرت إسرائيل “صورةَ الضحيّة”، ما ساعد الغرب على أن يتحرّر من عُقدة الهولوكست، التي ابتزّت إسرائيل عبرها، الدنيا بأسرها، بعد فظاعاتها في غزّة، التي لم يحتملها الضمير العالمي، على رغم عجزه وهشاشته، وهذا ما فجّر الاحتجاجات في أنحاء المعمورة، فأصبحت شوارع العالَم فلسطينية، وأكتشفت الشعوبُ نفاق أنظمتها، وتماهيها مع القاتل المستبيح، ما دفع الحكومات للاستجابة لنداءات شوارعها، لتنفيسها، وتقدّم شيئا ما للضحيّة الفلسطينية، فكان من ذلك؛ الاعتراف بفلسطين. أي أن السبب الرئيس الذي دفع العالَم نحو الاعتراف، هو؛ الدم المتفجّر في غزّة، ومشاهد الجرائم المدوّية في القطاع، أولاً، إضافة إلى تاريخ متراكم من الحراك السياسي والنضالي والدبلوماسيّ الفلسطيني، وما فعلته الدبلوماسية الشعبية، من جاليات وقوى ناعمة وأهلية، ساهمت في تخليق مزاج رافض للاستباحة الصهيونية، خضّ العالم، ودفعه نحو اتخاذ ما يلزم من مواقف واجبة الوجود. وأن الحديث عن إنهاء الحرب بعد عامين يؤكد فشل إسرائيل في تحقيق الأهداف التي أعلنتها، بالقوة..وأن الشعب الفلسطيني، الذي ضرب مثلا أسطوريا في الصمود، رغم الموت والجوع والعراء والأمراض والملاحقات النارية، في طريقه نحو الخلاص، بفعل ما حدث قبل عامين، والذي بدّل المعادلات وقلبها رأسا على عقب.
وباختصار؛ فإنَّ العدوان الاسرائيلي المتكرّر على غزة بحجمه ووسائله ونتائجه كشف مرّة واحدة وإلى الأبد أن إسرائيل، ومن خلفها أمريكا، اختارت القوّة والقوة فقط للتعامل مع المنطقة، وبهذا فقد اختارت الطريق الأسهل للتآكل والانفجار.
والعدوان؛ ورقة التوت الأخيرة التي سقطت عن عورة الأيديولوجيا الصهيونية، وجذرها التلمودي التوراتي القائم على فكرة التفوّق العرقي والإثني.
كما أن العدوان قد كشف المواقف جميعاً، كشف أصول ومنابع الخطابات الثقافية المستمرة عبر حقب طويلة من الزمن. فاسرائيل هي رؤية الغرب لمنطقتنا وشعوبنا وقضايانا، وإسرائيل هي الدليل على صدق الرؤى والنبوءات، وهذا دليل آخر قوي وملموس على أثر الرؤية الثقافية على مجمل السياسات الدولية، فالقرار السياسي ليس مصالح فقط، بل هو مبادىء ومرجعيات واختيارات ثقافية..أيضاً.
والعدوان على غزة كشف كيف أن دوائر القرار الغربي الاستعماري اختطفت كل شيء؛ القرار الدولي والهيئات الدولية والأنظمة المرتبطة وشاشات التلفزيون، ذلك لأن الأمر ببساطة شديدة يكمن في أننا اكتشفنا جميعاً أن اسرائيل هي دولة غربية أوروبية بيضاء استعمارية تخدم المخطط العدواني القديم، ذلك المخطط الذي من أجله احتُلت القدس في القرن الحادي عشر ثم احتلت في القرن العشرين مرة أخرى. ذات المخطط وذات الاهداف.
والعدوان على غزة أيضاً، كشف عنّا الغطاء، وأسقط ورقة التوت عن عورات أنظمتنا وخطابنا وأدائنا كذلك. وكشف رعب الأنظمة وخوفها ومدى بطشها، كشف تخاذل الكثير من المؤسسات غير الحكومية والمثقفين وانحيازاتهم المشبوهة، وكشف نقص الوعي وتبعثره وتوجهه إلى مهالك الهوى والغرض والمصلحة، كشف انحياز بعض النخب إلى أعدائها، أو إلى الصمت المشبوه، عندما تحين ساعة الحسم والحزم. وكشف مدى اختراق العدو لنسيجنا الاجتماعي والاقتصادي والأمني والسياسي، وكشف ضعف وهشاشة المجتمع المدني لدينا، وكشف ارتباطاتنا وصفقاتنا، ووهن إعلامنا وسكوت معظم كتّابنا الذين يبحثون عن خلاصهم الشخصي!
والعدوان على غزة كشف الانحيازات والاستقطابات والاصطفافات، وكشف الهزيمة التي تعشّش في صدور كثير منّا، ذلك الذي ادّعى الواقعية والمرونة والفهم والتفهّم. وبالمقابل، كان هذا العدوان المجرم دافعاً إلى الرؤية الواقعية الحقيقية، فاسرائيل النووية ضعيفة من داخلها، فجغرافيتها وديموغرافيتها وبنُيتها الاجتماعية والاقتصادية لا تحتمل المقاومة ولا الصمود، ولا تحتمل المواجهة الحقيقية والإرادة الصلبة والموقف السياسي المبني على مصالح الأُمّة.