قراءة نقدية لديوان ((في منتصف الحب))
أمد/ يمثّل ديوان “في منتصف الحب” للكاتب هادي زاهر، منعطفًا أدبيًا وتطورًا فنيًّا وإبداعيًّا واضحًا ونقلة نوعيّة في المسيرة الأدبيّة والإبداعيّة للكاتب، وهو الإصدار الرابع عشر، يقع في مئة وخمس صفحات من الحجم المتوسط احتوت على ثمان عشرة قصيدة، صدرت المجموعة عن دار الحديث للإعلام والنشر لصاحبها الشاعر فهيم أبو ركن الذي أشرف على التصميم الداخلي والمراجعة والتدقيق اللغوي للديوان بينما صممت الغلاف الخارجي الفنانة ملكة زاهر.
قد توزّعت مؤلفات هادي السابقة بين الرّواية والقصة القصيرة، بين المقالات السياسيّة والاجتماعيّة والمسرحيات القصيرة التي تطرح وتعالج هموم الشعب وقضاياه المصيريّة والآنيّة التي اِتسمت بالجرأة الأدبيّة والواقعيّة السرديّة في جميع أبعادها، بعيدة كل البعد عن النفاق والمداهنة، جاعلاً جلّ اهتماماته البحث عن الحقيقة واظهارها مهما كانت قاسيّة ومؤلمة، لكننا نلاحظ بهذا الكتاب ومنذ البداية وعلى الصفحة الأولى والإهداء، نزوعه إلى لون آخر قد يجمع ويضم جميع الأطياف والألوان، ومما لفت نظري اختياره لنصوص شعريّة نثريّة إثرائيّة تختلف عما سبق من كتابته الإبداعيّة بمحتواها الرقيق الداعي لنبذ العنف المستشري والمتجذّر في مجتمعاتنا داعيًا للمحبّة والسلام والتمسك بالقيم ، في منتصف الحب يجول شاعرنا حيث لا رجوع للوراء ولا تقدم الى الأمام فنراه يقف حائرًا حيث يقول في أحدى مقاطع قصيدة “في منتصف الحب” وهي القصيدة التي حمل عنوانها الديوان :
هُوَ ذَا مُنْتَصَفُ الحُبِّ
تَحَصَّنَ في شِغَافِ الْقَلْبِ
فَلا تَقَدُّمَ وَلا رُجُوعَ
كأنَكَ في ثَبَاتٍ
والْتِصَاقٍ في صَلِيْبِ يَسُوعْ
لكنه يستدرك في مقطع آخر من القصيدة فيدحض اليأس ويرنو الى الأمل قائلا:
كُنْ وَاقِفًا.. / في مُنْتَصَفِ الْحُبِّ.. / لَعَلّكَ تَلْمِسُ كُلَّ نُجُومِ السَّمَاءِ / وَلا تَكُنْ في الأَطْرَافِ، كَي لاَ يَغِيْبَ عَنْكَ، كُلُّ الّذي تَشَاءْ.. /لا تُغَادِرِ الْمُنْتَصَفْ.. / أنْتَ هُنَا في المُعْتَكَفْ!!
ويعود في المقطع الأخير من القصيدة لينثر الحلم والأمل:
هَذِهِ السَّمَاءُ زَرْقَاءُ.. / كَمَا الْحُلْمُ وَالدَّهْشَةُ وَهَذِهِ الأَرضُ خَضْرَاءُ / كَمَا رَجْفَةُ الْعِشْقِ / في نَبْضِهَا، كُلُّ شَيءٍ سَوْفَ يَكْتَمِلُ..
الكاتب يمتلك المهارة في توظيف الأدوات والظواهر الفنيّة الإبداعيّة والعتبات النصيّة مستخدمًا الدّلالات اللفظيّة والثنائيّة النصيّة فمطالع قصائده في هذا الديوان تحمل إضاءة فكريّة واشراقة فنيّة وبعيدة عن التقريريّة، لا تحمل تعقيدًا ولا غموضًا حيث يواصل الشاعر دعوته الى المحبّة في قصيدة “أكسجين”:
الْمَحَبَّةُ هِي الْمَطَرُ الأَوَّلْ.. / هَديَّةُ السَّمَاءِ للأَضْ.. / هُنَا بَحْرٌ.. هُنَا نَهْرٌ.. هُنَا جَدْوَلٌ.. هِي الْهَواءُ..
في صورة أخرى من هذه القصيدة يستشهد الشاعر في ابن حزم فيقول:
والْمَحَبَّةُ تُنَقِّي حَوَاسَنَا الْخَمْسَ، مِنْ قُتَامَةِ الْعَتْمِ وَالظَّلامِ.. / وَتُحَاصِرُ فِيْنَا لَعْنَةَ الْيَأْسِ.. وَتَرْفَعُنَا عَاليًا وَتَدْفَعُنَا إلى الأَمَامِ.. / وَهَلْ مِنْ عَبَثٍ كَتَبَ اِبن حزم؟ / كِتَابَهُ عَنْ الْمَحَبَّةِ “طَوْقُ الْحَمَامَةْ”..
وفي نهاية القصيدة يقول عن المحبَّة:
فَهِيَ النَّبْعُ الْعَذْبُ السَّلْسَبِيلْ / لِكُلِّ الأَعْمَارِ وَلِكُلِّ جِيلْ.. / وَلا اِرْتِوَاءَ مِنْ الْمَحَبَّة لا اِرْتَوَاءَ …!!
ويستفيق الكاتب من نشوة المحبّة ليغرق في الواقع الأليم والحزين فنراه يستخدم الثنائيّة والتضاد مستعملاً الرّمز كدلالة فيعيش اغترابًا عن الذّات وهو يصف ما يحدث من عنف وابتعاد عن الجذور فالمجتمع لم يعد كسابق عهده وصار غريبًا خاليًا من العواطف النبيلة والمشاعر الطيّبة فيقول في القصيدة قبل الأخيرة من الديوان ” ملحمة البقاء”:
لاَ وَقْتَ لَدَيَّ كَيْ أُدَوِّنَ كِتَابِيَ هَذَا صِيَاغَةً فَنْيَّةً !!/سَأَدْفَعُ بِهِ إلى الْفَضَاءْ.. / أَمْقُتُ مُمَارَسَةَ الْمُمَالأَةَ وَالالْتِوَاءْ.. / إنَّ وَجَعِي الْمُمْتَدَّ مِنْ هُنَا إلى هُنَا.. / مُلْتَفٌّ بِالْكُرَةِ الأَرْضِيَّةِ.. / خَرَجَ صُرَاخًا بِآهَاتْ.. / اِنْطَلَقَ شَرَارًا أَحَمْرَ..
هذا هو “هادي” ينتفض رغم دعوته للمحبّة والتسامح، يرفض اللامبالاة والالتفاف فهو ليس نعامة تدفن رأسها في الرمال، وجعه الإنساني يمتد ليشمل العالم بأسره، هذا الامتداد هو مكاشفة وتحوّل من الغموض إلى الوضوح ومن الاستكانة إلى الحركة والرفض فتخرج معاناة الإنسان المجروح صراخًا بآهات تنطلق شرارة حمراء.. فيواصل ليقول في مقطع آخر من القصيدة:
قَبْلَ أَنْ نَغْرَقَ فِي الاغْتِرَابْ.. / فَمَا الَّذَي جَرَى هُنَا وَهُنَاكَ ؟!!/ لَقَدْ تَسَلَّلَ سَرْحَانُ إلى الْمَدَارسِ.. / فِي غَفْلَةٍ مِنَ الْحَارِسِ.. / وَسَكَنَ الْحَقِيْبَةِ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالدَّفْتَرْ.. / قَامَ بِإلْغَاءِ الَّلَوْنِ الأَخْضَرْ، الَّذِي نُحِبُّهُ الْحُبَّ الأَكَبرْ..
أنها قصيدة استنهاض لا كآبة وبكاء ففي المقطع الأخير يقول شاعرنا:
اِسْأَلوا الزَّرْعَ الَّذي يَتَجَدَّدُ دَوْمًا.. / كَيْفَ حَافَظَ عَلى أَصَالَةِ الزَّرْعِ الَّذِي رَحَلْ ؟!!/ وَأَخِيْرًا.. / أَرْجُو أَنْ أَكُوْنَ رَاويًا لِوَرْدٍ وَقِتَادِ، لاَ نَافِخًا فِي رَمَادِ..
هذا المزج بين الشكل والجوهر والتنافر بين ثنائيّة المحبّة والكره، حوّل الوجع الى قصيدة تطالب بالعودة الى الأصالة والحفاظ على أرث الأجداد..
اكتفي بهذا العرض المصغّر لبعض القصائد، اترك الباقي لك عزيزي القارئ، وأعطي المتلقي فسحة كبيرة من التخيّل، أكثر شموليّة وعمقًا واتساعًا للتّحليق في فضاء النص، لسبر هذه القصائد المميّزة للكاتب هادي زاهر..
أتمنى المزيد من العطاء للأديب والارتقاء في التّجربة الشعريّة إثراءً وإبداعًا …