أمد/ رحلة لا تنتهي، تبدأ من نبض القلب وتمتد إلى آخر أفق في الذاكرة، في “مسافرٌ إليكِ”، يمزج محمد علوش بين لوز العشق وياسمين الحنين، بين رمان الأرض ودمع الفقد، ليكتب قصائد تمشي على الحد الفاصل بين الغناء والوصية، بين الهمس والنداء.
هنا، الحبيبة وطن، والوطن حبيبة، والقصيدة جسر من الضوء يعبره القارئ ليصل إلى أرضه الداخلية.
هذه المجموعة الشعرية تضعنا أمام تجربة متدفقة تمزج بين الحميمي والملحمي، وبين الرهافة العاطفية والصلابة الوطنية، فالسفر فيها ليس انتقالاً في المكان، بل ارتحال في خرائط القلب وأقاليم الحنين وتضاريس الذاكرة التي تتسع للحب والوطن والغياب والموت معاً.
العنوان نفسه يكشف عن جوهر التجربة، “مسافرٌ” هو الفعل، و”إليكِ” هي الغاية، حيث الضمير المخاطب يضفي حميمية خاصة ويجعل من القصائد مراحل في مسار واحد نحو الحبيب أو الوطن أو المطلق، وفي الإهداء المختصر “إليك وحدك.. جعلت لحياتي طعم اللوز…” يلمّح الشاعر منذ البداية إلى أن هذه الرحلة محمولة على جناح العاطفة الممزوجة بنكهة الأرض.
تتجلى جدلية الحب والوطن في معظم النصوص، إذ تتماهى صورة الأنثى مع صورة المكان، ويتحول بوح الحبيب إلى بوح الأرض، ففي قصيدة “موطن الروح”، يكتب:
“فيك وفينا القدس قرآنٌ وإنجيل
القدس قاماتٌ ذخائر للعناد
قلاعٌ للجبال الشم…”.
هنا، الحب فعل مقاومة وبقاء، والحبيبة رمز للثبات، وفي قصيدة “أحببتك أكثر”، يتحول العشق إلى طاقة خلاصية: “كلما نطقت شفتاك حروف اسمي / أحببتك أكثر…”، حيث يمنح التكرار الإيقاعي النص موسيقى داخلية ويحوّل الحب إلى عملية تراكمية تصاعدية، أما في “تذهب بي بعيداً في ملكوت الجنون”، فالحبيبة كائن أسطوري يأخذ الشاعر إلى أقاصي الحلم والصحراء، ويمزج بين اللذة والبراءة، والغواية والقداسة.
وتحضر الذاكرة في نصوص أخرى بوصفها مقاومة للنسيان، كما في “كل الأشياء تذكرني بك”:
“الشارع الحائر / المدينة المأهولة بالمشردين والكسالى / أجراس الكنيسة / صلاة العشاء في جامع صغير…”
هنا، تتحول التفاصيل اليومية إلى أرشيف شخصي يعيد تشكيل الماضي ليبقى حاضراً، وفي قصيدة “إلى الهنود الحمر في الخان الأحمر” يربط الشاعر بين مأساة الفلسطينيين ومأساة شعوب أخرى تعرضت للإبادة:
“الخان الأحمر عربي / ينبت قمحاً عربياً / ينبت غضباً / ينبت حقاً أزلياً!!”
حيث يتعانق المعجم الزراعي مع لغة الغضب والمقاومة، أما “غزة ملاذ روحنا”، فهي ذروة المزج بين البوح الشعري والخطاب المقاوم:
“غزة تتوق للفرح / الطباشير يمحوها الأحمر الأبدي…”.
ويتسع أفق التجربة ليشمل الموت والفقد، كما في “ساعي الحزن.. ساعي النشيد”، حيث يرثي والده بمزج الصورة الشخصية بالرمز الجمعي:
“رحلت فينا يا نبي الخلاص / يا نبض الروح والقلب…”
هنا، الفقد لا يختزل في الألم، بل يتحول إلى ذاكرة مضيئة وميراث روحي يمنح الشاعر صلابة في مواجهة العالم.
لغة المجموعة مشحونة بالحواس: اللوز، الرمان، الياسمين، النبيذ، ما يجعل الصورة الشعرية حية وملموسة، كما يوظف الشاعر التناص الديني والأسطوري، مستدعياً القرآن والإنجيل وأندلس الحنين وأيقونات الحب والموت، ليمنح النصوص بعداً كونيّاً.
التكرار الإيقاعي والنداءات المتوالية يضفيان دفئاً شفوياً يجعل النصوص قريبة من أذن المتلقي، وكأنها كتبت لتقرأ بصوت مسموع.
إن “مسافرٌ إليكِ” ليست مجرد ديوان، بل هي رحلة بحث عن المعنى في زمن يتشظى، ومحاولة لصياغة هوية شعرية تقيم في المسافة بين القلب والذاكرة، بين الحلم والجرح.
في هذه النصوص، يظل الشاعر مسافراً أبداً، لأن الغاية ليست الوصول، بل أن يبقى الطريق مفتوحاً، وأن يبقى القلب في حالة ارتحال دائم نحو ما يحب وما يؤمن به.