اخر الاخبار

في عيدها.. الأم الفلسطينية وجعها لا ينتهي

أمد/ في كل بقاع الأرض، تحتفل الأمهات بعيدهن بفرح ودفء، تُحاط الأم بأبنائها، تُهدى الورود، وتُسمع كلمات الامتنان والتقدير. لكن في فلسطين، عيد الأم ليس كغيره، فهو يوم يمر مثقلًا بالدموع، ممزوجًا برائحة الفقد، محفورًا على وجوه أمهات لم يعرفن إلا الصبر والصمود. كيف تحتفل أم فلسطينية بعيدها وهي تمسح دموعها على قبر ابنها؟ كيف تستقبل هذا اليوم وقلبها معلّق خلف أسوار السجون، أو في أنقاض بيت تهدم على ذكرياتها؟ وكيف لها أن تحتفل وهي تستقبل أبناءها لا بأحضانها، بل بالأكفان البيضاء؟

الأم الفلسطينية ليست كأي أم، فهي التي ودّعت أبناءها إلى الشهادة، وهي التي احتضنتهم قبل أن يختطفهم الأسر، وهي التي تودعهم كل صباح على أمل عودتهم، لكنها لا تعلم إن كانوا سيعودون حقًا. هي التي أعدّت الطعام بانتظار ابن لن يتذوقه، والتي حفظت ملامح طفلها في قلبها لأن الاحتلال حرمهما حتى من صورة تجمعهما.

إنها الأم التي حملت وطنها في قلبها كما حملت أبناءها، والتي لم تضعف رغم كل المحن. تراها في وداع الشهداء شامخة، تردد: “هذا قدرنا، ولا مفر لنا من هذا القضاء”، وهي تدفن فلذة كبدها، تمسح دموعها بيد وتربت على قلوب الباقين باليد الأخرى. تراها تحتضن كفن ابنها كما احتضنته رضيعًا، تقبّل جبينه المسجى بلا حياة، وتودّعه بكلمات ستبقى عالقة في ذاكرة التاريخ.

كيف لأم فقدت منزلها تحت القصف أن تشعر بفرحة العيد؟ في غزة، حيث المنازل ليست سوى حجارة متراكمة، تعيش الأمهات في خيام لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء. تفترش الأرض، وتلتحف الصبر، تنتظر عدالة لن تأتي. 

في الضفة، هناك أمهات قضين سنواتهن أمام بوابات السجون، يقطعن المسافات في انتظار دقائق قليلة لرؤية أبنائهن الأسرى. وفي الشتات، هناك أمهات حلمهن الوحيد أن يعودن إلى أرضهن التي هُجّرن منها قسرًا.

وفي كل زاوية من الوطن، هناك أم لا تجد بيتًا يجمعها بأطفالها، ولا طعامًا تضعه على موائدهم، ولا أمانًا يمنحها الطمأنينة. لكن رغم كل ذلك، لا تزال تحتضن أطفالها بكل الحب، تصنع لهم من المستحيل حياة، وتخيط لهم من جراحها مستقبلًا، مؤمنة بأن الاحتلال زائل، وأن الأرض ستحتضن أبناءها من جديد.

كما أن أمهات الأسرى… انتظارها لا ينتهي.. بمعنى أن تكون أمًا لأسير فلسطيني، فهذا يعني أن تعيش بين الرجاء واليأس، بين لحظة سماع صوت ابنها عبر الهاتف إن سُمح له، وبين سنوات الحرمان من العناق. إنها أم تحمل صورة ابنها في قلبها، تنتظر خروجه، تحسب الأيام، وتعد السنوات، لكنها تعلم أن الاحتلال لا يعرف الرحمة، وأن لقاءها به قد لا يكون إلا في جنازة بعد قهر السجن.

إنها الأم التي تحفظ أسماء السجون أكثر مما تحفظ أسماء المدن، التي تعرف تفاصيل المحاكم العسكرية أكثر مما تعرف تفاصيل الأعياد. تسير بين جدران الزنازين بصوتها المتهدّج، تنادي باسم ابنها عبر الأسلاك الشائكة، وتحمل في حقيبتها ملابس جديدة لعلّها تكون له في يوم الحرية. لكنها تدرك أن الحرية في فلسطين قد تأتي على هيئة كفن، كما حدث مع كثير من الأمهات اللواتي لم يفتح لهن السجن أبوابه إلا لاستلام جثامين أبنائهن.

في عيد الأم، تهدي الأمهات في كل العالم الهدايا، أما الأمهات في فلسطين، يأتي عيدها بلا هدايا، بلا أحضان.. فهديتهن الوحيدة هي رسالة تهريبها السجان، أو وردة يضعها طفل صغير على قبر أمه التي رحلت تحت القصف. في كل عام، تجلس أم شهيد أمام صورته، تحدثه كأنه لم يرحل، تخبره كم اشتاقت إليه، وتسأل: ” أما آن لهذا الاحتلال أن ينتهي؟ أما آن لي أن أفرح مثل بقية الأمهات؟”

أما الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم، فيقفون أمام قبورهن حاملين الرسائل والدموع، يتمنون لو تعود أمهاتهم ليمنحوهن قبلة العيد، لكن الواقع يسرق منهم حتى هذا الحق. بعضهم يحضن ثوب أمه الذي بقي بين الركام، وبعضهم ينام وهو يحتضن صورتها، علّها تملأ الفراغ الذي تركته.

 في عيدكِ، يا أم فلسطين، لا نجد من الكلمات ما يفي صبركِ حقه. أنتِ التي حملتِ الأرض في أحشائكِ قبل أن تحملي أبناءك، التي علمتِ الصمود قبل أن تعلّمي القراءة، التي لم تكسرها السجون، ولا القذائف، ولا الفقد. في عيدكِ، لا نملك إلا أن نقول لكِ: “كل عام وأنتِ فلسطين، كل عام وأنتِ عنوان التضحية، كل عام وأنتِ الأم التي لا يشبهها أحد. وأنتِ العيد، وأنتِ الوطن، وأنتِ الصمود الذي لا ينكسر”.

يا أم الشهيد والأسير والمفقود، يا أم اللاجئ والمنفي والمبعد، يا من أعدتِ زاد الرحيل لأبنائك، ثم ودّعتِهم بدموعك، كل عام وأنتِ رمز الحياة رغم الموت، ورمز الأمل رغم الألم، ورمز الوطن رغم الاحتلال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *