أمد/ الشاعرة الكبيرة الراحلة، وعلى مدى سنوات عمرها الست والثمانين، شاهدت ورافقت وعبّرت فيهن عن هذا الشعب. غير أنّ عالمها كان ضيقا ومحصورا، فَلم تتميز حياتها بالانقلابات الكبيرة والمناصب المهمّة، بل إنها لم تمارس شيئاً غير الشِعر. وعليه؛ فإنني أدّعي أنّ فدوى طوقان التي عرفتها عن قُرب، وكانت أُمّي الروحيّة أحاطت نفسها بنوع من الغموض، على المستويين الحياتي والإبداعي. أما الحياتي، فهي لم تذكر شيئاً في سيرتها عن تفاصيل حياتها، وعلاقاتها، وأفكارها، وأولويّاتها، ودوافعها، وعن النقاشات والجدل الذي خاضته، فلم نرَ شيئا في سيرتها سوى صمودها وإصرارها على الحياة، دون أن نلاحظ أثر كلّ الآخرين عليها. وقد وضعت فدوى ستاراً حديدياً بيننا وبين أعماقها، إذ أنها لم تضئ شيئاً من دواخلها ومشاعرها ونوازعها. ظلّت أرستقراطية، تجيد الابتسام وتبثّ الهدوء، دون أن تفصح عمّا بداخلها. وأدّعي أن ذلك انعكس على إبداعها الشِعري أيضاً، فقصيدتها ناعمة، طويلة، هادئة، وتميل إلى النثرية، رغم أن أعماقها تمور بالغضب والرفض والتمرّد.
فدوى طوقان لم تقل كثيراً، ولم تنشغل بالقضايا الفكرية الكبرى، قدر انشغالها بعالمها الصغير الذي كبر رغما عنها، إذ أن العالَم خارجها كان من الظلم والفظاظة إلى الدرجة التي اقتحم عليها عزلتها وأجبرها على التعامل معه، ولهذا؛ حوّلها من شاعرة تريد إثبات نفسها على المستوى العائلي والشخصي، إلى شاعرة مضطرة إلى إثبات هوية شعبها ووضعه على الخريطة..كان عليها هي بالذات أن تعبر عن هزيمة شعب كامل، وقمع بلد بحاله، وكان أن رأت ما تعرّضت له من تهميش وإهمال، يشابه تماماً ما يتعرّض له شعبها كلّه، ولكنها، ومن منطلق ما تعرّضت له من تربية وقوانين وثوابت، لم ترَ في تلك الهزيمة سوى البكاء والتفجّع، وهو سلوك أقرب إلى روحها وإلى ما تعوّدت عليه منذ صغرها. والبكاء سلوك سلبي ولو كان شفقة ورحمة، والبكاء موقف فردي ولو كان من دوافع نبيلة. وقد وقفت فدوى طويلاً في هذه الحالة ليدلّ ذلك على انعدام رؤية سياسية عميقة وشاملة لديها، على الرغم من مشاركتها الهامشية في الحياة السياسية، التي شهدتها فلسطين في الخمسينيات وما تلاها، من القرن الماضي.
انصياع شاعرتنا الكبيرة للسقوف والجدران التي حولها، والتي بنتها لنفسها، أيضاً، دفعتها لأن تصمت كثيراً وأن تُجامل كثيراً وأن تحذف كثيراً، أيضاً ..
نخلص من هذا كله إلى أننا أمام شاعرة انتصرت على ظروفها، ولكنها لم تنتصر على “تابوهات” تلك الظروف. شاعرة حقّقت إبداعاً، ولكنها لم تحقّق مواقف. عبّرت عن وجدانها ولكنها لم تعبر حدوداً أو تخترق سقوفاً. وهي لم تكن ولم تشبه شقيقها، حيث لم تنسلخ عن طبقتها ولم تخترقها.
لقد تفتّحت فدوى على قديم يتداعى وجديد يتناهض، وطبقة تنهار وطبقة تقوم، ودولة تذهب ودولة محتلّة تستبدّ، ومجتمع يتهدد، وآخر ينبت بشكل مفاجئ. لقد تشرّبت مبادئ الثقافة الواردة الحديثة الليبرالية، وهي الثقافة الأقرب لطبقتها، ما يعني أن شاعرة مثقفة ومتقدة الإحساس مثلها، لا بدّ لها أن تنغمس إلى أذنيها في ذلك السياق الفكري الاجتماعي، ولكن هذا لم يحوّلها إلى ثائرة ومتمرّدة، كتقليد شباب تلك المرحلة، حيث شهد ذلك الزمان تعدّد الحركات والثورات والجماعات والجمعيات. إن حماسة تلك الأيام ووهجها، أيضاً، لم يورّطها في الالتحاق بإحدى القوى أو الجبهات، بل ظلّت على الهامش، كما تحبّ هي أن تعيش..شاعرة فقط! شاعرة تستمتع بتأوّهاتها وحسرتها وبكائها.
وظلّت شاعرتنا فدوى طيلة حياتها تمسك العصا من الوسط، قادرة على القول وقادرة على الحذف، قادرة على التلميح دون التصريح، قادرة على الابتسام الجميل رغم اضطرام داخلها بالنيران.
وإذا ما قارنّا سيرة فدوى، بسيرة كاتبة بريطانية، أخرى، وأعني؛ إيرِسْ ماردوك الروائية الفيلسوفة، وكلاهما عاش في الزمن ذاته، سنرى أن إيرس كانت تحبّ الأغنيات وترددها في تلك الأمسيات العابقة بوهج الشراب والشباب، أما فدوى فلقد أصابها رُهاب القلعة المحكومة بالعمّة الغليظة والأشقاء الغيورين. وإذا تيسّر لإيرِس أن تشقّ الطريق اليانع الرجراج، فإن فدوى لم يتيسّر لها أن تلتقط تلك الفُلةَ البيضاءَ، أو أن تدفنها كالمومياء الصغيرة بين دفتيْ كتابها.
لقد شاهدوا جسد مردوك وهي تتعرّى، تماماً، مع حبيبها! أما فدوى فلم تتمكّن من كشف ذراعها النحيل..لهذا استطاعت الروائية البريطانيةُ أن تعترف، لمنْ أصبح زوجها أنها افترعت غير رجلٍ! بل أكدت له أن عَرق الخطيئة مازال نافذاً في المكان، حيث باضعت ذلك الناقد الأدبي على فِراش الزوجيّة، كما برّرت خيانتها بغير سببٍ، إذ كان أحدهم سيذهب للحرب، وعليه؛ لا بُدّ لها من أن تزوّده بزبدة الجسد الأخير.
وكانت ماردوك تحبّ النساء اللواتي شاركنها الفِراش، في وقت مبكّر من حياتها، رغم أنها لم تكن”مثليّة” تماماً، وكان بيتها متّسخاً فوضوياً، تخاف على النوافذ من الحيوانات الأليفة التي تحبّها، كما كانت تهجس خوفاً من الجنون..أما فدوى فقد اعتصمت بالصمت، بل نؤكّد على أنها لم تساحق امرأةً. لكنها، ربما، حلمت، في يقظتها بالجنون! وبالتأكيد، كانت تراودها أفكار مجنونة لم تعترف بها، مثلما لم ترتكبها ولم تجرؤ، علانيةً على الأقل، أن تجترحها أو أن تسرّ لأحدٍ بها.. ذلك لأن ماردوك كانت تنتمي لذهنية الاعتراف القادمة من طقس دينيّ، فيما ولدت فدوى من ذهنية الحَرام والعيب والممنوع. عدا عن أن التي تستطيع أن تتعرّى جسدياً أمام العيون، تستطيع أن تكشف عن آبار نفسها المعتمة، وتدلح ما فيها دون حرج..لهذا؛ فإن شخصية إيرس مُضاءة أكثر بكثير من شخصية فدوى، التي ولدت وعاشت وماتت في الظلّ الثقيل.
ولعل هذا الانكشاف الساطع وهذه الصراحة البالغة في حياة ماردوك، جعلت حياتها أكثر إثارة ودرامية وامتلاءً، وطبعت رواياتها بالسّر الغاوي، وصعدت بها إلى الذروة والبعيد، فيما ظلت فدوى طوقان أسيرة المحيط المحدد، مكاناً وزماناً، والمسقوف أصلاً بالعتمة والنمط والمتوقّع.
وإيرس التي، عندما تتحدّث عن الحبّ، تبهرنا باعتباره قيمة عليا ولذّة طاغية، فإن فدوى، المرأة التي لم تتزوّج، تحدثت عن الحبّ في مناخ محرج، وواقع لم يتعوّد أفراده الكلام عن الحبّ، باعتباره “العيب” وسبب المهالك والفضائح واقتراف الذنوب. لقد لوّحت فدوى بالحبّ وتحفّظت معه ولمّحت به، بل لم تنطق باسم الذي عشقته يوماً. أما مردوك فقط صوّحت واستطعمت الفاحشة! وبذلت حمائمها كاملة للأفعى.
أي أننا أمام امرأتين: إيرس التي قالت كلّ شيء واستنهضت المختبئة التي في داخلها، وعملت على تفكيكها ونشرها وإضاءتها، وتحميلها الظلال التي ينبغي أن تحملها معها كالشراع..وفدوى التي لا تبوح، وتحذف أكثر مما تقول، وتقف بين الإشارة والعبارة، ولم تُصرّح، ولم تواجه، بل ولم تسأل كثيراً أو جديداً..لهذا خرجت الروائية من إيرس دون انتقاص، وبقيت هناك شاعرة لم تخرج من فدوى، ولن تخرج أبداً.
وعلى أيّ حال، فإن اختلاف المبدعتين إيرس وفدوى، يبدو طبيعياً، لأنّ كلّاً منهما صدر عن “حضارة” و”ثقافة” و”واقع” مغاير..وهذا ما يفسّر انفتاح واحدة، وانغلاق أخرى.
