أمد/ في يوم الأحد المقبل، الرابع عشر من ديسمبر، تستعد حركة حماس لإحياء الذكرى الثامنة والثلاثين لانطلاقتها، لكن هذه المناسبة تأتي هذا العام محمّلة بأسئلة أثقل من الاحتفالات.

في شوارع وأحياء القدس الشرقية، لا يدور الحديث عن الشعارات أو التاريخ التنظيمي بقدر ما يدور حول حصيلة تأثير الحركة على حياة الناس، خصوصًا بعد العامين اللذين تبعا حرب “طوفان الأقصى”، فهذه الذكرى التي كانت في الماضي تمر بحماس ورمزية، أصبحت اليوم أشبه بـمرآة تعكس واقعًا متوترًا، يعيش فيه السكان بين تداعيات الحرب وتقلّبات يوميات قاسية لم تهدأ بعد.

يقول سكان من القدس الشرقية إن المشهد بعد الحرب تغيّر بصورة لم تكن ضمن توقعاتهم. فعلى الرغم من أن الحركة نقلت رسائل بأنها تخوض معركة “من أجل الفلسطينيين جميعًا”، إلا أن نتائج هذه الحرب جاءت مختلفة على مستوى حياتهم اليومية. قطاع السياحة الذي كان شريانًا اقتصاديًا للمدينة منذ عقود، أصيب بشلل غير مسبوق، وتراجعت أعداد الزوار، ما أدى إلى إغلاق محال وفنادق وشركات سياحية كانت تعتمد على موسم الحج المسيحي والتواجد الأجنبي.،أا تجار المدينة، فيصفون هذه المرحلة بأنها “الضربة التي لم ينهض منها الكثيرون”.

ومع انهيار السياحة، وجد عدد كبير من العائلات المقدسية نفسها في مواجهة واقع معيشي أكثر قسوة، سواء بانخفاض دخل الأسواق جعل القدرة الشرائية تتراجع، وازداد الاعتماد على الديون والقروض المؤجلة، حتى المتاجر التي بقيت مفتوحة فعلت ذلك كنوع من الصمود الرمزي أكثر مما هو نشاط تجاري فعلي. أصحاب المحال يتحدثون عن أيام طويلة خلف الواجهات الزجاجية ينتظرون زبونًا قد لا يأتي.

لكن الضرر لم يتوقف على الاقتصاد وحده. فقد تزايدت الإجراءات الأمنية في أحياء القدس الشرقية بصورة لافتة، كما يصف الأهالي، فالدوريات والحواجز والاقتحامات الليلية والاعتقالات التي بلغت مستويات قياسية غير مسبوقة منذ سنوات، خلقت شعورًا عامًّا بأن الحرب لم تنتهِ داخل المدينة رغم أنها تدور في مكان آخر. شبابٌ يتم توقيفهم دون إنذار، ومنازل يُداهمها الجنود فجراً، واستدعاءات لا تنتهي، جعلت الخوف جزءًا من تفاصيل اليوم.

ومع ارتفاع وتيرة هذه الإجراءات، تروي العائلات قصصًا عن ليالٍ لا تنام فيها الأمهات، منتظرات سماع صوت خطوات الأبناء على الدرج ليكتمل حضور الجميع داخل البيت.

هذا الواقع خلّف أيضًا آثارًا نفسية تراكمية على الأطفال والشباب، فالمدرسين في مدارس القدس يشيرون إلى تراجع التركيز والعلامات وتزايد الانفعال في الصفوف، أما المعالجون فيتحدثون دائما عن كوابيس وقلق عام وأعراض انسحاب لدى أطفال اعتادوا رؤية مشاهد اقتحام أو أصوات مداهمات، فالذاكرة الصغيرة، كما يقول المختصون، لا تنسى بسهولة “صوت الباب حين يُكسر”.

وبعيدًا عن الأرقام والإحصاءات، فإن المشهد الاجتماعي يشي بالكثير من التغييرات، فالأعراس أصبحت أقل بهجة، والزيارات العائلية أقل تواترًا، والاجتماعات في المقاهي أو الساحات العامة باتت تحمل طابعًا متوترًا. الناس لا يتحدثون عن المشاريع ولا عن المستقبل كما كانوا يفعلون، بل عن النجاة اليومية، وكيفية التكيف مع مدينة يتغير فيها الشعور بالأمان من ساعة لأخرى.

ومع كل ذلك، تظهر أصوات في القدس تسأل: هل هذا ما كانت الحركة تسعى إليه؟ هل تحسن وضع المقدسيين أم ازداد تعقيدًا، تلك التساؤلات ليست بالضرورة اعتراضًا سياسيًا مباشرًا، لكنها انعكاس لما يشعر به الناس من أثمان يدفعونها دون أن يروا نتائج واضحة في حياتهم. “نحن لسنا طرفًا في القرارات لكننا ندفع ثمنها”، عبارة تتكرر على ألسنة كثيرين.

ورغم هذه المؤشرات، يحاول البعض التمسك برواية أن المقاومة جزء من الهوية الفلسطينية، وأن التاريخ مليء بالأثمان قبل الوصول إلى أي تغيير، لكن في المقابل، هناك من يرى أن خيارات الحرب يجب أن تُقاس بميزان ما تخلفه من نتائج على الناس، لا فقط بما تحققه من رمزية، وبين هذين الاتجاهين، يعيش سكان القدس الشرقية في مساحة رمادية من الحيرة والأسئلة المفتوحة.

وفي ظل غياب آفاق سياسية أو اقتصادية واضحة، تزداد الدعوات لإيجاد مسار يخفف من حدة الضغط على الناس ويعيد تدوير عجلة الحياة الطبيعية التي يفتقدها الجميع، فيريد السكان مدارس تعمل دون خوف، أسواقًا تعج بالناس كما كانت، وسياحة تعيد للمدينة نبضها ووجوه زوارها، وأيامًا يمكن التنبؤ بها دون مفاجآت ثقيلة.

ومع حلول الذكرى الثامنة والثلاثين لحماس، سيقف الكثيرون في القدس الشرقية أمام مفارقة واضحة: بين حركة تحتفل بتاريخها، وبين واقع يشهد أن حياة الناس تغيرت أكثر مما احتموا به. وبينما تتردد الشعارات على المنصات، يبقى صوت الأهالي هو الأكثر صدقًا وبساطة: نريد حياة تشبه ما كنا نعرفه… هادئة، مستقرة، وبلا جراح إضافية.

وفي نهاية المطاف، تبقى الأسئلة معلقة فوق المدينة: هل يمكن أن يعود ذلك الهدوء الذي افتقدته القدس طوال العامين الماضيين؟، وهل تمتلك الحركة، ومعها جميع الأطراف، القدرة على إعادة إحياء حياة يشعر فيها الناس بأن الغد يمكن أن يكون أفضل؟ أم أننا أمام فصل جديد، طويل وغير قابل للتوقع، يستعد الجميع لدفع ضريبته مجددًا؟.. الزمن وحده كفيل بالإجابة، لكن الناس هنا لا يريدون أن يكونوا مجرد متفرجين على مستقبلهم.

شاركها.