فلسطين بين نفسية الأحرار ونفسية الحَرْكى!
كانت غزوة بدر الكبرى، وهي أول معركة إسلامية بحق، فيصل التفرقة بين عهدين من الزمان: عهد تحمّل الأذى وعهد دفع الأذى، وفيصل التفرقة بين الناس في المجتمع المسلم: الرجال المخلصون (والحركى) المنافقون. ومثلما كان الحال في زمن غزوة بدر الكبرى كان الحال عبر الزمان، وما زال ذات الحال في زمننا هذا: المسلمون بين احتمال الأذى ودفع الأذى. والمجتمعات المسلمة بقدر ما تزخر به من الرجال الصادقين تعاني من وجود (الحركى) والمنافقين!.
لقد استوقفتني آية في سورة الأنفال جاءت في سياق الآيات التي تتحدث عن غزوة بدر، يقول فيها الحق تبارك وتعالى: {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غَرَّ هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإِن الله عزيز حكيم}، ومعناها: “اذكروا أيها المؤمنون وقت أن قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: {غَرَّ هؤلاء دينهم}: أي خدعهم؛ لأنكم أقدمتم على قتال قوم يفوقونكم عدة وعددا، وهذا القتال في زعمهم لون من إلقاء النفس إلى التهلكة؛ لأنهم قوم لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة، فهم لخراب بواطنهم من العقيدة السليمة، لا يعرفون أثرها في الإقدام من أجل نصرة الحق، ولا يقدرون ما عليه أصحابها من صلة طيبة بالله عز وجل الذي بيده النصر والهزيمة.. وما داموا قد فقدوا تلك المعرفة، وهذا التقدير، فلا تستبعدوا منهم أيها المؤمنون أن يقولوا هذا القول عنكم، فذلك مبلغهم من العلم، وتلك موازينهم في قياس الأمور. والحق أن الإنسان عند ما يتدبر ذلك ليرى أن هذا القول دأب كل المنافقين والذين في قلوبهم مرض في كل زمان ومكان”.
قال الشهيد سيد رحمه الله: “وقولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض، عن العصبة المسلمة يوم بدر: {غَرَّ هؤلاء دينهم}.. هي قولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض كلما رأوا العصبة المسلمة تتعرض لجحافل الطاغوت في عنفوانه؛ وعدتها الأساسية التي تملكها هي هذا الدين؛ وهي هذه العقيدة الدافعة الدافقة؛ وهي الغيرة على ألوهية الله وعلى حرمات الله؛ وهي التوكل على الله والثقة بنصره لأوليائه. إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقفون ليتفرجوا والعصبة المسلمة تصارع جحافل الطاغوت، وفي نفوسهم سخرية من هذه العصبة التي تتصدى للخطر، وتستخف بالخطر!، وفي نفوسهم عجب كذلك ودهشة في اقتحام العصبة المسلمة للمكاره الظاهرة، وللأخطار الواضحة”.
وهذا الذي حدث مع الثورة الجزائرية المظفرة حيث كان الحركى يقولون: (انتوما تخرجوا فرنسا وطياراتها). وهذا الذي نسمعه اليوم من المنافقين والحركى في كل البلاد العربية والإسلامية تستهزئ بصواريخ القسام والمقاومة الفلسطينية، ألا ساءت الوجوه!. إنه المنطق نفسه: {غَرَّ هؤلاء دينهم}. وهذا المسلك من الحركى هو في حقيقته عورة فاضحة يراد منها تغطية عورة مفضوحة!.
قال الإمام الأستاذ محمد عبده رحمه الله عن المنافقين في غزوة بدر والمخذّلين الخانعين الحركى في زماننا: “فلم يجدوا تعليلا لإقدام المؤمنين القليلين العادمين للقوى المادية على قتال المشركين المعتزين بكثرتهم وقواهم إلا الغرور بدينهم، وما كانوا مغرورين بأنفسهم، بل واثقين بوعد ربهم، متوكلين عليه في أمرهم، وقد بين الله ذلك في الرد على أولئك المنافقين، بقوله: {ومن يتوكل على الله فإن الله عزِيز حكيم}”.
وعلى هذا فلا يقف هذا الموقف، ولا يقول هذا القول من كان قلبه عامرا بالإيمان، وصدره منشرحا باليقين، لا يقول كلام الخزي هذا إلا من كان ذليلا في نفسه، حقيرا في همته، مذبذبا في يقينه، منهزما في معنوياته، أو منافقا مخادعا أو خادما (لأجندات) تطبيعية خبيثة خانعة خائنة!. ثم إن الاستهزاء بالمقاومة وصواريخها قول قبيح وفعل شنيع وعمل مهين!، وهو أقبح ما يكون إذا كان صادرا من علماء دين ومشايخ ودعاة!، يحفظون القرآن، ويفسرون سورة الأنفال، ويقصون على الناس قصة غزوة بدر!، وبدل أن يقتدوا بسيد المرسلين عليه أزكى الصلاة والسلام، وصحبِه الكرام جند الله وجند رسوله يقتدون بأعدائهم ويقولون مثل قولهم: غرّ المقاومة دينهم!!!.
إن المقاومة الباسلة في أرض فلسطين الطاهرة وغزة الصامدة ليست مطالبة الآن بتحرير فلسطين، كل فلسطين، وهي تعي ذلك جيدا، إنما المطلوب منها أن تبقي جذوة المقاومة حيّة في نفوس الجيل. وأن تربك خطط العدو الصهيوني وتعطلها ما استطاعت. وأن تهز الأمن الصهيوني وتزلزله، ولا تسمح لهم بالاطمئنان؛ لأن الأمن بعد استراتيجي في الخطط الصهيونية، وهم أذلهم الله الذين وضعوا مخططات: الأرض مقابل السلام. والذي يغفل عنه كثيرون أن الهجرة الصهيونية العكسيّة إلى خارج فلسطين ترتفع معدلاتها بعد كل حرب في غزة بفعل صواريخ المقاومة، وهي في منحى تصاعدي منذ حرب الفرقان في غزة عام 2008 إلى حرب سيف القدس. ثم جاء طوفان الأقصى الذي صدم استخبارات دول العالم وأذل جيش الاحتلال الذي لا يقهر، وما دامت المقاومة في تصاعد فهي منتصرة منتصرة، وإنما القضية قضية وقت، هذا ما يفهمه العقلاء وما يقتضيه منطق الواقع والاستراتيجية.
وإنما المطلوب منها الآن أن تفضح المطبعين وهوانهم وتحرجهم أمام شعوبهم وأمام شعوب العالم. وأن تبقي رايات الجهاد والثورة خفّاقة حتى يبلغ المد الثوري مداه ومنتهاه. كحال الثورات الشعبية عندنا في الجزائر: لم تتوقف قرابة قرن، ولم تطرد الاستعمار الفرنسي الإرهابي، ولكنها أبقت روح الثورة والجهاد حتى انفجرت ثورة نوفمبر. فيكفي المقاومة في غزة أن تبقى معلما للقدوة ماثلا أمام الأجيال في زمن سقوط القدوات!، ومنارا للعز مشعا في الأمة زمن الذلة!. يكفيها هذا إنجازا، ويكفيها هذا نصرا وعزا، ولا نامت أعين الجبناء!
*إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة