أمد/ تبدو ملامح الدولة الفلسطينية اليوم وكأنها تُولد من رحمٍ معقّدٍ ومفعمٍ بالتناقضات، ولعلّ ما وصفه الكاتب خالد بن حمد المالك بـ«الولادة القيصرية» يختصر بدقة واقع هذه اللحظة التاريخية التي يعيشها الشعب الفلسطيني.
فالعالم يشهد موجةً متسارعة من الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية، مترافقةً مع تحركاتٍ دبلوماسيةٍ نشطة يقودها الرئيس محمود عباس في عواصم القرار المسيحي والسياسي الكبرى: الفاتيكان، إيطاليا، وفرنسا. غير أن هذا المخاض لا يزال مؤلمًا، لأنّ القابلة الدولية — ممثلة بالولايات المتحدة وإسرائيل — ترفض أن تسمح بولادةٍ طبيعيةٍ للدولة المنتظرة.
لقد تحوّل الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين من مجرد موقف رمزي إلى خطوةٍ سياسيةٍ ذات دلالاتٍ استراتيجية. فاعتراف فرنسا وبلجيكا وإسبانيا والبرتغال ومالطا، ومن قبلها عددٌ من الدول اللاتينية والآسيوية، يعكس قناعةً متنامية بأن استمرار الاحتلال هو الجذر الحقيقي لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط. لم تعد القضية الفلسطينية قضية «نزاعٍ حدودي» كما حاولت تل أبيب وحلفاؤها تصويرها، بل قضية شعبٍ يناضل من أجل حقه في الوجود والسيادة وفق قرارات الشرعية الدولية وحدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
زيارة الرئيس الفلسطيني إلى الفاتيكان كانت بمثابة تأكيدٍ روحيٍ وأخلاقيٍ على عدالة القضية، فيما حملت زيارته إلى روما وباريس دلالاتٍ سياسيةٍ واضحة: أوروبا تريد إعادة فتح مسار الحلّ السياسي وفق رؤيةٍ جديدة، بعد أن أثبتت الحروب المتكررة على غزة فشلَ المقاربة الأمنية الإسرائيلية في فرض واقعٍ دائم.
هذه التحركات تعيد التذكير بأن الدبلوماسية الفلسطينية، رغم ضعف الإمكانيات، ما زالت قادرة على حشد الاعتراف والدعم الدولي، مستندةً إلى صمود الشعب الفلسطيني ومظلوميته التاريخية.
لكن في المقابل، لا يمكن إغفال الرفض الأميركي الإسرائيلي المشترك لأي خطوةٍ تمسّ احتكار الاحتلال للقرار في الأرض الفلسطينية.
واشنطن، التي ترفع شعار «حل الدولتين»، تمارس عمليًا في مجلس الأمن سياسة «الفيتو» التي تمنع أي تطوّرٍ قانوني نحو الدولة، بينما تستمر إسرائيل في فرض الوقائع على الأرض: استيطانٌ متسارع، تهجيرٌ قسري، وحصارٌ دائم لغزة.
هذا الازدواج في المواقف يجعل «الاعترافات» أقرب إلى إعلان نوايا، لا إلى تحوّلٍ فعليٍّ في ميزان القوة الميداني.
إنّ ولادة الدولة الفلسطينية لن تكون ممكنة إلا إذا تحوّلت هذه الاعترافات إلى خطواتٍ تنفيذيةٍ ملموسة: دعمٍ سياسيٍ في الأمم المتحدة، اعترافٍ قانونيٍ بحدود الدولة، فرضِ عقوباتٍ على الاحتلال إذا استمر في إنكار الحق الفلسطيني.
كما أن نجاح هذا المسار يتطلب وحدةً فلسطينيةً حقيقية تعيد الشرعية الوطنية إلى إطارٍ واحد، وتمنح العالم شريكًا سياسيًا موثوقًا وقادرًا على إدارة الدولة المقبلة.
ومع ذلك، فإنّ ما يجري لا يمكن الاستهانة به، فالمناخ الدولي يتبدّل ببطء، لكنه يتحرك في الاتجاه الصحيح. الشعوب الأوروبية تضغط على حكوماتها لإنهاء سياسة الكيل بمكيالين، والكنائس ترفع صوتها الأخلاقي دفاعًا عن شعبٍ محاصرٍ يُقتل ويُجوّع أمام أنظار العالم.
كل ذلك يعيد الاعتبار للمسار السياسي الفلسطيني بعد سنواتٍ من التهميش والخذلان.
نعم، قد تكون الولادة عسيرة، لكن المولود قادم لا محالة.
فالدولة الفلسطينية باتت اليوم حقيقةً سياسيةً تتشكل في ضمير العالم قبل خرائطه، وتترسخ في وعي الإنسانية قبل أن تُرسم حدودها على الأرض. إنها مسألة وقتٍ وإرادة، لا مسألة إمكانية، وحين تكتمل ساعة المخاض، لن يستطيع الفيتو الأميركي ولا الجدار الإسرائيلي أن يحجب فجر الحرية عن سماء فلسطين.
فالشعب الذي صبر قرنًا على الظلم، قادرٌ أن يصنع دولته بيديه، وأن ينهض من تحت الركام كما ينهض الزيتون بعد كل عاصفة…
ليكتب على جبين الأرض أن الحق لا يموت، وأن فلسطين ستولد حرّة مهما طال المخاض.
