“فكر أرحب من السماء”: شي والثقافة الفرنسية
في كل مرة يلقي فيها الرئيس الصيني شي جين بينغ كلمة بمناسبة العام الجديد، كانت أرفف الكتب في مكتبه داخل مجمع تشونغنانهاي دائما محط دراسة من قبل أولئك الشغوفين بالقراءة في جميع أنحاء البلاد والعالم.
بينما تتحرك الكاميرا أثناء التصوير، يستطيع المشاهدون المدققون في التفاصيل أن يجدوا وسط مجموعات الكتب لدى شي بعض روائع الكتب الفرنسية الأساسية، بما فيها “روح القوانين”، و”البؤساء”، و”الأحمر والأسود”، و”الكوميديا الإنسانية”. وقد قال شي ذات مرة “لقد نما لدي اهتمام كبير بالثقافة الفرنسية وخاصة تاريخ فرنسا وفلسفتها وأدبها وفنها عندما كنت شابا”.
إن شي لديه نهم للقراءة. وقد ساعدت قراءته المستفيضة في تشكيل منظوره العالمي. وبعد أن أصبح رئيسا للصين، جعل التفاعل الثقافي علامة مميزة لدبلوماسيته، الأمر الذي مكّن من تحقيق تفاهم أفضل بين الصين والعالم الأوسع.
في الوقت الذي تحتفل فيه الصين وفرنسا بمرور 60 عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما هذا العام، من المقرر أن يقوم الرئيس الصيني بزيارة دولة ثالثة إلى هذه الدولة الأوروبية. وكل الأنظار تتجه إليه لمعرفة كيف سيقرّب هذا الشخص، المتحمس للثقافة الفرنسية، الحضارتين العظيمتين في الشرق والغرب من بعضهما البعض بصورة أكبر.
من ستاندال إلى هوغو
خلال السنوات التي كان فيها شي في سن المراهقة في أواخر ستينيات القرن الماضي، تم إيفاده إلى ليانغجياخه، وهي قرية فقيرة تقع في هضبة اللوس بالصين، كـ”شاب متعلم” لكي “يتعلم من الفلاحين”.
ووسط المصاعب التي تواجهها الحياة الريفية، أصبحت القراءة بمثابة الراحة الروحية لشي. فقد قرأ كل كتاب استطاع أن يجده في القرية من روائع الأدب الكلاسيكي، وكان من بينها رواية “الأحمر والأسود”.
صورة أرشيفية التقطت في عام 1972 لشي جين بينغ، الذي كان آنذاك “شابا متعلما” في الريف، أثناء عودته إلى بكين لزيارة أقاربه. (شينخوا)
وبعد سنوات، تذكر شي بإعزاز قائلا إن “رواية الأحمر والأسود لستاندال هي رواية مؤثرة للغاية”، مضيفا “ولكن عندما يتعلق الأمر بتصوير التعقيدات التي يواجهها العالم، فإن أعمال بلزاك وموباسان هي الأفضل، على سبيل المثال، الكوميديا الإنسانية لبلزاك”.
تركت كتب كلاسيكية لكتّاب لامعين فرنسيين انطباعا عميقا للغاية لدى هذا القارئ واسع الاطلاع لدرجة أنه غالبا ما كان يستشهد في خطبه بمقولات جاءت فيها، ولا سيما لفيكتور هوغو. ففي خطاب ألقاه أمام مؤتمر باريس التاريخي المعني بتغيُّر المناخ لعام 2015 للدعوة إلى التوصل إلى اتفاق، استشهد شي بعبارة فطنة من رواية “البؤساء” تقول “الموارد العظيمة تنبع من القرارات القوية”.
كما أن شي لديه حبٌّ للأعمال الفنية الفرنسية. فهو يستمتع بأعمال الملحنين الفرنسيين بيزيه وديبوسي. وقد زار العديد من المواقع الثقافية، بدءا من قوس النصر المهيب وصولا إلى القاعات الفخمة في قصر فرساي. ويرى من أعماق قلبه أن المقتنيات الخالدة في متحف اللوفر والمكان المقدس بكاتدرائية نوتردام هي كنوز راسخة للحضارة الإنسانية.
اثنان من المؤدين لأوبرا كونتشيوي، وهو شكل تقليدي من أشكال الفنون المسرحيّة الصينية، يقدمان عرضا على طريقة الـ”فلاش موب” بالقرب من قوس النصر في باريس بفرنسا، 13 سبتمبر 2023. (شينخوا)
في الواقع، شي ليس أول زعيم صيني يصبح مغرما بالثقافة الفرنسية. فخلال ما يُعرف باسم “حركة العمل الدؤوب والدراسة المقتصدة” في عشرينيات القرن الماضي، سافر الزعيمان الصينيان الراحلان تشو إن لاي ودنغ شياو بينغ إلى فرنسا في رحلات تعليمية بحثا عن مخرج للصين، وهي دولة كانت آنذاك ممزقة جراء الحرب والفقر والغزوات.
في ذلك الوقت، كان العديد من الشباب الصينيين الوطنيين يستمدون الإلهام من كتابات عن الثورة الفرنسية، التي تُشكل أيضا خلفية رواية “البؤساء” لهوغو، وهي واحدة من أكثر الروائع الفرنسية التي يستند إليها شي في استشهاداته. وكما ذكر شي ذات مرة، كانت إحدى الوقائع التي أثرت فيه بشدة عندما قدم الأسقف ميريل يد المساعدة لجان فالجان وشجعه على أن يكون إنسانا أفضل.
وقال إن “الأعمال العظيمة تملك قوة عظيمة تمكنها من التأثير في القرّاء”.
“تشي يين” أو أصدقاء أحماء
إن تقدير شي للثقافة الفرنسية يفسر لماذا أصبحت التبادلات الثقافية بارزة بشكل متزايد في تفاعلاته مع القادة الفرنسيين وفي التبادلات الثنائية بين البلدين.
في عام 2019 في مدينة نيس الفرنسية، استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شي في فيلا كيريلوس، وهو منزل عمره قرن من الزمان يطل على البحر الأبيض المتوسط ويُنظر إليه على أنه صورة مُصغّرة تعكس الحضارة الأوروبية. هناك قام ماكرون بإهداء شي كتابا قديما: إنه نسخة ثمينة من النسخة الفرنسية الأصلية من كتاب “كونفوشيوس، أو علم الأمراء”.
يتميز هذا الكتاب الكونفوشيوسي بأن غلافه مصنوع بلون جلد العجل البني الرخامي ومطبوع على عموده الفقري منقوشات باللون الذهبي أما حوافه فهي باللون البني المحمر، وقد نُشر في عام 1688 خلال عصر التنوير. وثمة سطر مكتوب بخط مموج باللغة الفرنسية القديمة، بعد بضعة صفحات من أول الكتاب، يقول “بالنسبة للقراء يعد هذا الكتاب مفتاحا أو مقدمة لقراءة كونفوشيوس”.
الرئيس الصيني شي جين بينغ (الثاني من اليمين) يتسلم النسخة الفرنسية الأصلية من كتاب “كونفوشيوس، أو علم الأمراء”، التي نُشرت في عام 1688، من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون (الأول من اليمين)، كهدية وطنية قبل اجتماعهما في نيس بفرنسا، 24 مارس 2019. (شينخوا) |
لقد ألهمت الترجمات المبكرة لتعاليم كونفوشيوس المفكرين الفرنسيين مونتسكيو وفولتير، هكذا قال ماكرون لشي، الذي كان يحمل الكتاب بحرص شديد وغلافه مفتوحا. ومن جانبه قال شي “إنها هدية ثمينة”. وفيما بعد أصبح أحد المقتنيات الثمينة في المكتبة الوطنية الصينية.
خلال القرن الـ17، شهدت أوروبا ظهور اتجاه يُعرف باسم “شينويزيري”، والذي انتشر عبر القارة في القرن الـ18، مدفوعا بزيادة التجارة مع الصين. وفي الوقت نفسه، قام الباحثون الفرنسيون المتخصصون في علم الصينيات باستكشاف دراسة الكونفوشيوسية، التي تشكل الركيزة الفلسفية للثقافة الصينية التقليدية، ونشروا أفكارهم في جميع أنحاء أوروبا.
وأشار مراقبون إلى تلك التبادلات التي جرت بين الثقافتين. فقد كتب قو هونغ مينغ، وهو باحث صيني معاصر معروف يقول “يبدو أن الفرنسيين فقط هم الذين يفهمون الصين والحضارة الصينية بعمق لا مثيل له، لأنهم يملكون جوهرا روحيا غير عادي شأنهم شأن الصينيين”.
يرى شي أن الصين وفرنسا يمكن أن تصبحا “تشي يين” أو صديقتين حميمتين، يمكنها فهم بعضهما البعض بعمق نظرا ثرائهما الثقافي الوفير.
خلال إقامة ماكرون في حاضرة قوانغتشو جنوبي الصين في أبريل من العام الماضي، تجاذب رئيسا الدولتين أطراف الحديث أثناء تناولهما الشاي في حديقة الصنوبر بمقر إقامة حاكم مقاطعة قوانغدونغ، حيث كان والد شي، شي تشونغ شيون، يقيم عندما شغل المنصب في ثمانينيات القرن الماضي في بداية عملية الإصلاح والانفتاح بالصين.
بينما كان الزعيمان يتجولان في الحديقة، ملأت الأنغام الساحرة لآلة تشين الموسيقية، وهي آلة صينية قديمة، الأجواء، ونسجت لحنا آخاذا. بدا ماكرون مفتونا وأخذ يستفسر عن اسم المقطوعة الموسيقية. فأجاب شي قائلا إن اسمها “الجبال العالية والمياه المتدفقة”، وبعدها قَصَّ عليه القصة المعروفة وراء هذه المقطوعة، حكاية يوي بوه يا وتشونغ تسي تشي.
الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يستمعان إلى عزف على آلة تشين لمقطوعة “الجبال العالية والمياه المتدفقة” في قاعة باييون بحديقة الصنوبر في مدينة قوانغتشو، حاضرة مقاطعة قوانغدونغ جنوبي الصين، 7 أبريل 2023. (شينخوا)
تقول الأسطورة الصينية القديمة إن يوي كان عازفا بارعا على آلة تشين الموسيقية فيما كان تشونغ، المستمع المخلص له، يملك قدرة نادرة على فهم المشاعر التي تنقلها الموسيقى التي يعزفها يوي. عندما توفي تشونغ، حطم يوي الذي تملكه الحزن آلته الموسيقية وتعهد بعدم العزف مرة أخرى منذ أن فقد “تشي يين”، وهو تعبير يعني حرفيا باللغة الصينية صديقا مقربا جدا يفهم موسيقى الآخر.
قال شي لماكرون “لا يستطيع سوى تشي يين (الأصدقاء الأحماء) فهم هذه الموسيقى”.
اثنان من المستقلين
“هناك آفاق أعظم من البحر، وهي السماء؛ وهناك آفاق أكبر من السماء، وهي الروح البشرية”، هكذا استشهد شي بمقولة لهوغو في الخطاب التاريخي الذي ألقاه في اليونسكو بباريس عام 2014.
الرئيس الصيني شي جين بينغ يلقي كلمة في مقر منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، في العاصمة الفرنسية باريس، 27 مارس 2014. (شينخوا)
وأضاف الرئيس الصيني، وهو نصير مخلص للتعايش المتناغم بين الحضارات في عصر من التغيرات العميقة على الساحة الدولية قائلا “حقا، نحن بحاجة إلى فكر أرحب من السماء ونحن نقترب من مختلف الحضارات”.
بالنظر إلى أن باريس هي المدينة المضيفة لليونسكو وأن شي ينظر إلى فرنسا كممثل رئيسي للحضارة الغربية، فليس من المستغرب أن يختار الزعيم الصيني العاصمة الفرنسية كمكان ليشرح رؤيته للحضارة لأول مرة على الساحة العالمية.
وقالت إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لليونسكو آنذاك، “أتذكر جيدا كلماته عندما قال إننا اليوم (حيث) نعيش، نمثل ثقافات وأديان ومجموعات عرقية مختلفة، ولكننا جزء من مجتمع ذي مصير مشترك”، مشيرة إلى أنه “بعد مرور عشر سنوات، لم تصبح أي من الكلمات التي قالها الرئيس شي كلمات قديمة اليوم. بل باتت أكثر أهمية نظرا للمشكلات التي نواجهها في الوقت الحاضر”.
أرجعوا عقارب الساعة إلى الوراء 60 عاما وصولا إلى عام 1964. ففي 27 يناير من ذلك العام، صنعت الصين وفرنسا تاريخا بإقامتهما رسميا علاقات دبلوماسية، الأمر الذي حطم القبضة الجليدية لعزلة الحرب الباردة وحفز على تحول الوضع العالمي نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب. وفي افتتاحية نُشرت في اليوم التالي، وصفت صحيفة ((لوموند)) الفرنسية هذه اللحظة التاريخية بأنها “لقاء بين اثنين من المستقلين”.
وعلى حد تعبير شي، فتح الرئيس ماو تسي تونغ والجنرال شارل ديغول، بحكمة وشجاعة غير عاديتين، الباب أمام التبادلات والتعاون بين الصين والغرب، “ما بعث الأمل في العالم وسط الحرب الباردة”.
قال تسوي هونغ جيان، مدير مركز دراسات الاتحاد الأوروبي والتنمية الإقليمية في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين، إن “الصين وفرنسا حضارتان مستقلتان لكنهما متشابهتان في التفكير”.
ساعة جيب أثناء عرضها خلال معرض بعنوان “المدينة المحرمة وقصر فرساي: التبادلات بين الصين وفرنسا في القرنين الـ17 والـ18” أقيم بمتحف القصر الإمبراطوري في بكين، أول أبريل 2024. (شينخوا) |
وأشار تسوي إلى أنه “استنادا إلى ثراء ثقافتهما وتاريخهما، تتشارك الدولتان رؤى عميقة حول الاتجاهات العالمية”، مضيفا “إنهما لا تريدان الهيمنة على الآخرين، وفي المقابل، لا تريدان أن يُهيمن عليهما”.
قال لوران فابيوس، وهو رئيس المجلس الدستوري ورئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، إن فرنسا والصين ملتزمتان بالتعددية والسلام.
وشدد فابيوس على أنه “في عالمنا الخطير هذا، يجب أن تكون هناك قوى للسلام والتنمية المستدامة، ومن الواضح أن هذا يجب أن يكون، بعيدا عن أوجه الاختلاف بيننا، مهمة رئيسية للصين وفرنسا”.
(كما ساهم في كتابة المقال مراسلو ((شينخوا)) دنغ يوي شان، ليو تشانغ، ليو يو مين، تشانغ داي لي في بكين، تانغ جي، شيوي يونغ تشون، تشانغ باي هوي في باريس.)