أمد/ لم تكن حركة “فتح” مجرّد فصيلٍ سياسي في التاريخ الفلسطيني، بل كانت كبيرة القوم بحق — صاحبة الباع الطويل في دهاليز السياسة، وصاحبة التجربة الأعمق في فنّ التعامل مع الدول وموازين القوى. كانت تملك من ة ما يؤهّلها لأن تمسك بزمام القرار الفلسطيني بقدرٍ من النضج والمسؤولية، وتمنع عنه الانزلاق نحو المغامرات أو العزلة.

لكنّ ما جرى في عام 2007 غيّر ملامح المشهد تمامًا؛ إذ وجدت غزة نفسها تُدار من قِبَل حركةٍ أخرى — خماس — وجدت في القوة العسكرية طريقًا إلى الحكم، وفي السيطرة الأمنية وسيلةً للبقاء، دون أن تمتلك ة السياسية أو الإدارية اللازمة لإدارة مجتمعٍ متشعّبٍ ومعقّدٍ كالذي في غزة.

فكان أن تحوّلت “القيادة” إلى “سيطرة”، و”السلطة” إلى “هيمنة”، والناس إلى مجرّد أرقامٍ في معادلةٍ مغلقةٍ على ذاتها.

في المقابل، تراجعت “فتح” في الضفة وغزة معًا، رغم وضوح رؤيتها السياسية التي تبنّت خيار التسوية السلمية دون ان تلقي البندقية. إلا أنّ الفارق بين الموقف والفعل كان شاسعًا، فبينما ظلّ الخطاب الرسمي متماسكًا، تآكلت القدرة التنظيمية والسياسية في الميدان، وتراجع حضور الكادر الفتحاوي الفاعل، وغابت المؤسسات التي كانت يومًا تصنع القرار وتضبط الإيقاع.

ومع هذا الفراغ، تمدّدت “خماس” داخل قطاع غزة، لا بفضل نجاحٍ إداري أو مشروعٍ وطني متماسك، بل بغياب منافسٍ قويٍّ قادرٍ على موازنتها. وهكذا انقلبت المعادلة السياسية: أصبحت “خماس” كبيرة غزة بحكم الأمر الواقع، بعدما تخلّت “فتح” عن كونها كبيرة الوطن بحكم التاريخ.

اليوم، وبعد كل ما جرى، يبدو أن الخطيئة الكبرى لم تكن في الانقسام نفسه، بل في السماح له أن يتحوّل إلى واقعٍ دائم. ففي اللحظة التي غابت فيها “فتح” عن الميدان، دخلت غزة في دوّامةٍ لا قدرة فيها على إدارة الشأن العام، ولا أفق، ولا مراجعة، ودُفع الشعب الفلسطيني — مرة أخرى — ثمن أخطاء السياسيين.

ربّما لا تزال فلسطين بحاجةٍ إلى “فتح” تعود إلى أصلها الوطني الأول، لا إلى ماضيها التنظيمي فحسب، و”خماس” تعود إلى فكرة المقا.ومة لا إلى غواية السلطة.

فما بين خبرةٍ غابت، وتجربةٍ فشلت، ضاعت البلاد بين من يعرف الطريق ولا يسير فيه. وبين من يسير دون أن يعرف إلى أين.

شاركها.