اخر الاخبار

غزة تفقد ذاكرتها.. تدمير ممنهج للمواقع الأثرية والتراثية تحت القصف

أمد/ في واحدة من أخطر الهجمات على الإرث الثقافي الفلسطيني، لم تسلم المواقع الأثرية في قطاع غزة من القصف الإسرائيلي العنيف، الذي لم يفرّق بين البشر والحجر. ومع استمرار العدوان منذ أكتوبر 2023، تؤكد المؤشرات أن استهداف الأماكن الأثرية والتراثية لم يكن عشوائيًا، بل محاولة مدروسة لطمس هوية شعب يمتد تاريخه إلى آلاف السنين.

استهداف متعمد ومحاولة لطمس التاريخ

صرّح وزير السياحة والآثار الفلسطيني، هاني الحايك، بأن “الاحتلال تعمد استهداف المواقع الأثرية في قطاع غزة”، مشيرًا إلى أن أكثر من 226 موقعًا أثريًا وتاريخيًا تعرضت لأضرار جسيمة، بعضها دُمّر كليًا، والبعض الآخر تضرر بشكل بالغ يصعب ترميمه في الوقت القريب.

وأكد الحايك أن الوزارة تعمل على إعداد خطة شاملة لإنقاذ التراث الثقافي في غزة، تشمل التوثيق، والإغاثة الطارئة، وإعادة الترميم، مشددًا على أن “هذه المواقع تشكّل جزءًا مهمًا من تاريخ شعب فلسطين على هذه الأرض، وواجبنا أن نعيدها إلى سابق عهدها مهما كلفنا الأمر”.

دراسة: الاحتلال ينتهك اتفاقيات دولية لحماية التراث

في هذا السياق، نشرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية دراسة موسعة بعنوان: “التراث الثقافي في قطاع غزة: شاهد وشهيد”، وثّقت فيها بالتفصيل حجم الدمار الذي طال المواقع التاريخية والأثرية، معتبرة أن الاحتلال “تعمد تدمير أكبر عدد ممكن من الأماكن الأثرية والتراثية الثقافية”، في انتهاك صارخ لاتفاقية اليونسكو لحماية التراث الثقافي والطبيعي لعام 1972، التي تمنع تدمير أو الإضرار بالممتلكات الثقافية خلال النزاعات المسلحة.

الدراسة سلّطت الضوء على القيمة الحضارية لكل موقع، معتبرة أن العدوان يستهدف الذاكرة الجماعية الفلسطينية، ويطمح إلى محو رواية شعب بأكمله من كتب التاريخ.

أبرز المواقع الأثرية المستهدفة في غزة

1. حي الدرج التاريخي البلدة القديمة في غزة

من أقدم أحياء المدينة وأكثرها ثراءً بالموروث الثقافي:

* مسجد السيد هاشم: يضم قبر جدّ النبي محمد ﷺ، ويُعد مركزًا دينيًا وتاريخيًا مهمًا.

* سوق القيسارية: من أقدم الأسواق في المنطقة، بُني في العصر المملوكي.

* قصر الباشا: من أبرز المعالم العثمانية القديمة في غزة.

* المسجد العمري الكبير: ثالث أكبر مسجد في فلسطين، بُني قبل أكثر من 1400 عام، وكان في الأصل كنيسة بيزنطية.

القصف أدى إلى دمار واسع في الحي، ودمّر معظم المعالم التاريخية فيه.

2. كنيسة القديس برفيريوس حي الزيتون

تُعد ثالث أقدم كنيسة في العالم لا تزال قائمة، بُنيت في القرن الخامس الميلادي. كانت رمزًا للتسامح الديني في غزة، ومأوى للنازحين خلال الحرب.

في 19 أكتوبر 2023، استُهدفت الكنيسة أثناء وجود عشرات المدنيين بداخلها، ما أدى إلى استشهاد 20 شخصًا وتدمير جزء كبير من معالمها المعمارية الفريدة.

3. ساحة الجندي المجهول حي الرمال

نصب تذكاري تاريخي يمثل ذاكرة النضال الفلسطيني والعربي ضد الاحتلال. يقع على امتداد شارع عمر المختار.

قُصفت الساحة بشكل مباشر، ودُمرت بالكامل، في مشهد يُمثّل تدميرًا رمزيًا لتاريخ المقاومة والبطولة.

4. متحف العقاد مدينة خانيونس

يحتوي على مئات القطع الأثرية من العصور الكنعانية والرومانية والإسلامية. يضم أيضًا نقودًا قديمة ومخطوطات نادرة.

تعرّض المتحف للقصف، ما أدى إلى تحطيم العديد من القطع، وتضرر القاعات الداخلية.

5. موقع تل السكن جنوب غزة

أقدم موقع أثري كنعاني معروف في القطاع، يعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، ويضم آثارًا تدل على وجود نظام عمراني متطور وتحصينات دفاعية.

القصف أدى إلى ردم أجزاء كبيرة من الموقع، ما يُهدد بفقدان آثار نادرة لم تُدرس بالكامل بعد.

6. تل رفح الأثري مدينة رفح

يعود للعصر الروماني، ويُعتقد أنه كان موقعًا عسكريًا مهمًا يربط غزة بمصر القديمة.

تعرّض الموقع لقصف مباشر، أزال معالمه السطحية وألحق أضرارًا كبيرة بالطبقات الأثرية المدفونة.

معركة على الذاكرة

إن استهداف هذا الكم من المواقع الأثرية لا يمكن تفسيره فقط كأثر جانبي للحرب، بل يُعد جريمة ثقافية ممنهجة تسعى لمحو رواية وطنٍ بأكمله. فكل مسجد، وكنيسة، وسوق، وبيت قديم في غزة يحكي قصة أجيال مرت من هنا، وتمسكت بجذورها على هذه الأرض.

وفي ظل صمت دولي واسع، وغياب إجراءات حماية فعلية للتراث الثقافي في مناطق النزاع، تبقى مسؤولية إنقاذ ما تبقى من ذاكرة فلسطين مرهونة بإرادة أهلها، وجهود المختصين، ودعم المؤسسات الدولية التي ما زالت تؤمن بأن الثقافة ليست ترفًا، بل مقاومة حقيقية ضد الفناء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *