أمد/ عندما صاغ المفكر العبقري والجغرافي المصري جمال حمدان مفهومه الشهير “عبقرية المكان”، كان يقصد أن الجغرافيا ليست مجرد تضاريس أو حدود، بل هي قوة خفية تصنع التاريخ وتوجه مصائر الشعوب. فالمكان في نظره ليس إطاراً محايداً للأحداث، وإنما هو ميدان له شخصية ودور، يفرض على أهله رسالتهم وموقعهم في العالم. وقد ضرب حمدان أمثلة عديدة في كتابه شخصية مصر، لكن فلسطين كانت دائماً حاضرة باعتبارها النموذج الأوضح لالتقاء العبقرية بالقدر.
تجسد فلسطين عبقرية الموقع، فهي تقع عند ملتقى القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا. وهي حلقة الوصل بين البحرين الأحمر والمتوسط، وملتقى طرق التجارة القديمة والجديدة. وهي ممر الإمبراطوريات القديمة ومابعدها إلى مصر الحضارة والتاريخ، هذا الموقع جعلها منذ فجر التاريخ مركزاً حضارياً وروحياً، وجعل من القدس رمزاً دينياً عالمياً. لكن في الوقت ذاته، هذا الموقع نفسه جعلها مطمعاً للقوى الكبرى، من الفراعنة والآشوريين والبابليين إلى الرومان والصليبيين، وصولاً إلى الاستعمار الحديث والحركة الصهيونية. هنا تتجسد رؤية حمدان: العبقرية تتحول إلى قدر مزدوج، ميزة وعبئاً في الوقت ذاته.
وإذ كانت فلسطين كلها تعتبر عبقرية مكان على مستوى استراتيجي واسع، فإن غزة تمثل تركيزاً لهذه العبقرية في أصغر مساحة. فهي تقع على خط التماس بين مصر والشام، وتشكل المعبر البري الوحيد تقريباً بينهما. منذ آلاف السنين، لم تمر جيوش من الجنوب إلى الشمال إلا عبر غزة: جيوش الفراعنة، الإسكندر، الصليبيين، المماليك، العثمانيين، الإنجليز، ثم الإسرائيليين. ولهذا أطلق عليها بعض المؤرخين “مفتاح الحرب والسلام في المشرق”.
هذا الموقع أعطى غزة أهمية تفوق مساحتها، لكنها في الوقت ذاته جعلتها ساحة اجتياحات متكررة. فبينما تمثل العبقرية في كونها بوابة التواصل بين حضارات عريقه، فإنها أيضاً لعنة لأنها دائماً في مرمى النار. وكأن قدرها أن تكون في قلب الميدان، أول من يُستهدف عند الاضطراب، وآخر من ينال الاستقرار.
ويرى جمال حمدان أن عبقرية المكان قد تتحول إلى لعنة حين يعجز أصحابه عن توظيفها. فإذا كان الموقع أعظم من قوة الحماية الذاتية، يصبح ساحة صراع بدلاً من مصدر ازدهار. هذا ما حدث لفلسطين وغزة: موقع بالغ الأهمية، لكن ضعف البنية السياسية والانقسام الداخلي والأطماع الخارجية حولوه إلى جرح مفتوح. وكأن التاريخ يعيد نفسه بلا توقف، في دورات من الغزو والمقاومة والخراب.
إن قراءة غزة من منظور “عبقرية المكان” عند جمال حمدان تكشف أنها ليست مجرد قضية إنسانية أو سياسية عابرة، بل قضية جيوسياسية راسخة في صميم خريطة العالم. فالمكان هنا يصنع التاريخ أكثر مما يصنعه البشر. وإذا أراد الفلسطينيون والعرب أن يحولوا هذه اللعنة إلى بركة، فعليهم أن يعوا قوة الجغرافيا، وأن يستثمروا الموقع بدل أن يكون عبئاً عليهم. فالميدان نفسه قد يكون لعنة إذا تُرك للآخرين والأغبياء، لكنه قد يصبح نعمة إذا امتلكه أصحابه ووجهوه بإرادتهم.
غزة إذن هي التعبير الأوضح عن جدلية “العبقرية واللعنة” التي تحدث عنها جمال حمدان. فهي مدينة صغيرة بمساحة ضيقة، لكنها تحمل وزناً استراتيجياً أكبر من دول كاملة. عبقرية المكان أعطتها موقعًا فريداً، لكن التاريخ حوله إلى قدر مؤلم. ويبقى التحدي هو: كيف يمكن تحويل عبقرية الميدان من لعنة متوارثة إلى فرصة لصناعة مستقبل جديد.