أمد/ مع مرور ما يقارب سنتان على حرب 2023 على قطاع غزة التي لن تتوقف آثارها حدود الركام والدمار الذي طال كامل الأحياء والمنازل والمرافق بل سيمتد إلى قلب المشهد السياسي الفلسطيني والإقليمي والدولي على حد سواء، فقد أعادت هذه الحرب بضحاياها الكثر وبحجم المعاناة الإنسانية التي خلفتها القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام العالمي بعد فترة من التراجع والانشغال الدولي وكان حال أهل غزة هو السبب في ذلك مشاهد النزوح الجماعي المتكررة وانهيار البنى التحتية وصور الأطفال تحت الأنقاض لم تكن مجرد مأساة إنسانية بل حملت رسائل سياسية أعادت ترتيب الأولويات وفتحت نقاشات واسعة حول مستقبل غزة والقضية الفلسطينية ككل.
قطاع غزة اليوم يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه، مدن كاملة سويت بالأرض وشوارع بكاملها محيت من الخريطة، تاركة عشرات الآلاف من العائلات بلا مأوى ولا مأمن والمستشفيات تعمل بطاقة أقل من حدها الأدنى وتعاني نقصًا فادحًا في الأدوية والمعدات الطبية، فيما تحولت المدارس والمساجد المتبقية حتى اللحظة إلى ملاجئ مكتظة بالنازحين، في ظل شح الماء الصالح للشرب والذي أصبح عملة نادرة والكهرباء التي اختفت منذ بداية الحرب الشرسة، ما يجعل الحياة اليومية تحديًا مستمرًا للسكان.
هذا الانهيار الاجتماعي والاقتصادي يزيد من هشاشة الوضع السياسي، فارتفاع معدلات البطالة والفقر يعمق الإحباط الشعبي مما يخلق ضغوطًا على القيادات الفلسطينية للبحث عن حلول سريعة وفاعلة، في الوقت ذاته يستخدم المجتمع الدولي هذه الأزمة كورقة ضغط إذ يربط المساعدات الإنسانية أو جهود إعادة الإعمار بخطوات سياسية مثل تحسين التنسيق بين الفصائل الفلسطينية أو الانخراط في مسارات تفاوضية جديدة.
إن الحرب ألقت الضوء مجددا على الانقسام الفلسطيني الداخلي، فبينما اعتبرت بعض الفصائل أن صمود غزة يمثل انتصار رمزي على المستوى العسكري والسياسي فيما رأى آخرون أن غياب وحدة القرار السياسي والميداني ساهم في تعميق مأساة المدنيين وإضعاف القدرة على مواجهة الضغوط الخارجية، اما على الجانب الإسرائيلي أثارت الحرب انتقادات داخلية ودولية حادة بشأن استخدام القوة المفرطة وتداعياتها الإنسانية ما دفع بعض الأصوات في الداخل الإسرائيلي إلى التساؤل عن جدوى السياسات الحالية تجاه غزة وعن إمكانية تبني استراتيجيات أقل تكلفة سياسيًا وأمنيًا، هذه النقاشات وإن كانت محدودة فأنها قد تمثل بداية تغيّر في النهج الإسرائيلي إذا ما توافقت مع ضغوط خارجية قوية.
اقليميا أحدثت الحرب ارتباكا في المواقف العربية، وهذا ما ظهر خلال القمة العربية بعض الدول اكتفت بإدانة الهجمات وتقديم المساعدات الإنسانية بينما حاولت دول أخرى لعب دور الوسيط لتجنب توسع الصراع أو انهيار التهدئة الإقليمية، كما أعادت الحرب فتح ملفات قديمة مثل اتفاقيات التطبيع، وطرحت أسئلة حول مدى التزام الدول العربية بالقضية الفلسطينية في ضوء مصالحها الوطنية والإقليمية.
والحديث عن إعادة إعمار غزة وان كان ذلك من المبكر الحديث عنه إلا أنها لن تكون مهمة سهلة أو سريعة، فحجم الدمار يفوق قدرات المؤسسات المحلية ويتطلب دعم مالي وتقني واسع من المجتمع الدولي، لكن هذا الدعم غالبا ما سيكون مشروطاً بضمانات سياسية على أقل تقدير مثل وجود إدارة شفافة للمساعدات وتخفيف الانقسام الفلسطيني الداخلي وربما ترتيبات أمنية محددة ترفض الشكل السياسي السابق والحالي بخصوص قطاع غزة وهنا يبرز التحدي الأكبر “كيف يمكن تحقيق توازن بين الحاجة الماسة للإغاثة الفورية وبين المتطلبات السياسية التي قد تفرض من الخارج؟” واجابة ذلك الطرح يجب أن يكون حاضراً لدى “النُخب السياسية” التي تطمح لإدارة قطاع غزة بعد ذلك العدوان الشرس.
وعلى المستوى البعيد لا يمكن فصل إعادة الإعمار عن التسوية السياسية لأنه دون معالجة جذرية لقضايا الانقسام والاعتراف بالحقوق الفلسطينية سيظل القطاع عرضة لجولات جديدة من العنف في أي وقت قادم وبالتالي مستقبل قطاع غزة يعتمد على مسارين متوازيين أولا مسار اقتصادي واجتماعي يعيد بناء ما تهدم ويمنح السكان أملا بالحياة، ومسار سياسي يعيد إحياء القضية الفلسطينية كقضية تحرر وحقوق لا كأزمة إنسانية مؤقتة أخطئ في تصديرها للعالم حزب لم يدرك خطورة الحرب والدمار وكان يقدم مصالحه الضيقة على حساب المصلحة الوطنية العليا.