غزة بين التهجير وتفكيك الموقف العربي

أمد/ حين أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن ما سماه “خطة ترامب لغزة”، التي تصوّر فيها القطاع كوجهة سياحية فاخرة أشبه بـ”ريفييرا” تعج بالفنادق وتستقطب الزوار من مختلف أنحاء العالم، بدا أن الطرح يخفي خلف واجهته الاقتصادية مشروعًا سياسيًا بالغ الخطورة، يسعى لإعادة صياغة الواقع الفلسطيني وفق رؤى تتجاوز فكرة التهجير إلى تفكيك البنية السياسية لكافة الأطراف الفاعلة في الشرق الأوسط.
ورغم أن ترامب لم يكشف عن شركائه في الجانب الاستثماري، إلا أن المؤشرات دلّت على وجود أطراف عربية ساهمت ضمنيًا في تمرير هذا المخطط، إما عبر الدعم غير المباشر أو بتوفير الغطاء السياسي الذي احتاجته الإدارة الأمريكية لتنفيذ أجندتها باستخدام أدوات الإجرام الصهيونية على الأرض.
على الصعيد السياسي، أثارت الخطة رد فعل عربي برفض التهجير ، تمثل بمبادرة عرفت حينها بـ”الخطة العربية السعودية المصرية”، والتي جاءت كاستجابة أولية لرفض مقترح التهجير الأمريكي. لكن هذا الموقف الموحد سرعان ما تراجع، ليتحوّل إلى مبادرة مصرية منفردة بعد انسحاب السعودية من المشهد، في ظل مساعٍ أمريكية منهجية لتفكيك وحدة الموقف العربي وتحويله إلى تنافس على نيل رضا واشنطن.
ولم تكتف الولايات المتحدة بتغيير التوازنات السياسية، بل عملت على إعادة رسم خارطة التحالفات الميدانية، حيث سعت إلى إخراج حركة حماس من الإطار العربي، رغم قبولها المبدئي بالمبادرة التي كانت تُدار عبر الوسيط المصري. وقبل أن تتمكن مصر من نيل تفويض عربي رسمي لإدارة الملف، تدخلت واشنطن لإقصاء حماس من المشهد العربي وإلحاقها بمسار تفاوضي ثنائي مباشر معها حول ملف الأسرى والرهائن.
واعتبر بعض المراقبين أن هذا التحول يشكل اختراقًا سياسيًا وإنجازًا تفاوضيًا على حساب إسرائيل. لكن واقع الحال يشير إلى أن هذا اللقاء مثّل نقطة تحول خطيرة، حيث مكن الولايات المتحدة من الانتقال من دور الوسيط إلى طرف فاعل مباشر في الصراع، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من الانزلاق السياسي.
هنا ارتُكبت الخطيئة الكبرى؛ فبينما اعتقدت حماس أنها قادرة على إدارة الملف بعيدًا عن الغطاء العربي، كانت واشنطن تستثمر هذا اللقاء لضرب أكثر من هدف: إخراج الحركة من المشروع العربي، إجهاض المبادرة المصرية التي كانت قريبة من التنفيذ، ومعاقبة الأطراف العربية التي أبدت رفضها الصريح لمشروع التهجير الأمريكي.
ومع تعقد المشهد، دخلت الأزمة في غزة مرحلة جديدة، عنوانها “لا تفاوض قبل أن يُستكمل التدمير”، في إشارة إلى سياسة الأرض المحروقة التي يبدو أن واشنطن باتت تتبناها ضمن مشروعها الأوسع.
في هذا السياق، يتضح أن الولايات المتحدة لا تكترث لضحايا الحرب ولا للدمار الإنساني، ولا تحتكم لأي مرجعية أخلاقية أو إنسانية في إدارة الحروب، ما يعكس طبيعة الثأر السياسي الذي تُمارسه بعيدًا عن أي معايير دولية متعارف عليها.