أمد/ في الليلة التي اهتزّ فيها مخيم عين الحلوة على وقع صاروخ اخترق قلبه المكتظ، لم تهتز نشرات الأخبار اللبنانية إلّا بالكاد. كأنّ الانفجار وقع في قارة أخرى، أو كأن المخيم — بأطفاله وعائلاته وذاكرته — لم يعد جزءاً من الجغرافيا اللبنانية التي تتغنّى الفضائيات بتغطيتها “الشاملة”.
كان مشهداً فاضحاً: مجزرة في مدينة لبنانية تحتضن أكبر تجمع فلسطيني، والإعلام المحلي يتصرّف كأنه غير معني، وكأن الدم لم ينساب على أمتار من استديوهاته.
ما جرى لم يكن مجرّد قصور مهني. كان إعلاناً صارخاً عن أزمة أخلاقية قبل أن تكون أزمة خطاب.
لم يكن غياب التغطية مجرد غفلة مهنية عابرة، بل كان تعبيراً قاسياً عن عقل إعلامي يرى في المخيم “هوامش”، وفي ضحاياه “تفاصيل”، وفي مأساتهم “قصة ليست لبنانية”. وهذه ذهنية لا يمكن وصفها إلا بأنها مزيج خطير بين عنصرية مؤسساتية وتحيّز سياسي وإفلاس في الحسّ الإنساني.
إعلام لا يسمع إلا صدى مصالحه
مساء المجزرة، نشرت بعض القنوات خبراً مقتضباً ببرود تقني: “استهداف في مخيم عين الحلوة”. لا سياق، لا تحليل، لا متابعة، لا مراسل ميداني، لا نافذة إنسانية.
الأخطر أنّ النبرة كانت أقرب إلى محضر بوليسي منها إلى غرفة أخبار تتعامل مع كارثة.
وكأنّ أي تذكير بحجم التداخل بين صيدا والمخيم، أو بالتاريخ الثقيل الذي يحمله الفلسطينيون في لبنان، قد يربك المعادلات السياسية التي يتقاسمها “أمراء الشاشات”.
الحقيقة أن جزءاً واسعاً من الإعلام اللبناني يعاني اليوم من عمى إرادي: يرى ما يناسبه، ويشيح بنظره عن المآسي التي لا تصبّ في جدول أعماله السياسي.
وفي عين الحلوة، كانت المأساة “غير ملائمة” على ما يبدو؛ فهي لا تخدم عمليات الاستثمار الطائفي، ولا سجالات الداخل، ولا المزايدات التي اعتادت عليها الشاشات.
مجزرة بلا صورة… كأنها بلا حقيقة
لم يدرك هذا الإعلام — أو لعله أدرك وتجاهل — أن استهداف المخيم في توقيت مكتظ ليس خبراً عابراً.
إنه حدث يهزّ سؤالاً أكبر بكثير من لحظة الانفجار:
هل بات المخيم يُدفع قسراً إلى أن يصبح ساحة لحروب الآخرين؟ وهل يُراد لأهله أن يتحولوا إلى أرقام في معادلات إقليمية لا تخصّهم؟
لكن هذه الأسئلة لم تجد مكاناً في نشرات الأخبار.
صمتٌ مريب، بلا تعليق، بلا مساءلة، بلا غضب.
إعلام كامل بدا كأنه ارتاح لأنّ الحدث وقع في “الجهة الفلسطينية” من المدينة، لا في “الجهة اللبنانية”.
صيدا… المدينة التي فهمت ما لم يفهمه الإعلام
في المقابل، كسرت صيدا وحدها هذا الجدار من التبلّد.
أعلنت الحداد، أغلقت مؤسساتها التجارية والتعليمية، وقفت إلى جانب المخيم كما تقف مدينة إلى جانب ضلعها الحيوي.
صيدا أدركت أن المخيم ليس “غريباً”، بل شريكاً في الاقتصاد، وفي المجتمع، وفي الذاكرة اليومية للجنوب.
بينما تخلّت محطات وطنية عن مسؤوليتها الإنسانية والمهنية، كانت المدينة — بأهلها وبقرارها — أكثر انتماءً للوطن مما ظهر على الشاشات.
وهذه المفارقة وحدها تكشف عمق الأزمة:
مدينة تتصرّف بعقل الدولة، وإعلام يتصرّف بعقل الطوائف.
أزمة إعلام… أم أزمة ضمير؟
ما حصل لا يثير فقط أسئلة مهنية، بل أسئلة وجودية حول مستقبل الصحافة في لبنان.
كيف يمكن لإعلام يدّعي الاحتراف أن يغضّ الطرف عن حدث من هذا الحجم؟
كيف يسوّق لنفسه كإعلام “وطني”، وهو يعامل جزءاً من نسيج البلد كأنه فائض عن الحاجة؟
وأي شرعية أخلاقية تبقى لوسائل إعلام ترى في دم الفلسطيني “عنصراً خارج الصورة”؟
إن كارثة عين الحلوة وضعت الإعلام اللبناني أمام مرآة عارية:
يا ترى، هل يعجز عن تغطية المأساة؟
أم يتجنبها لأنه لا يريد الاعتراف بأن المخيم جزء من لبنان؟
أم لأنه يخشى أن تزعج الحقيقة بعض المموّلين، وبعض السياسيين، وبعض الروايات الجاهزة؟
كلمة أخيرة… حتى لا يتحول الصمت إلى تواطؤ
في زمن تتضاعف فيه المآسي، يصبح الصمت الإعلامي شكلاً من أشكال المشاركة في الجريمة.
وما حدث ليلة أمس في عين الحلوة — بكل ما حمله من دم ورعب وأسئلة — لم يكن حدثاً فلسطينياً فقط، بل حدثاً لبنانياً بامتياز.
ومَن لم يدرك ذلك في الإعلام اللبناني، فليقرأ جيداً ما فعلته صيدا: مدينة أدّت واجبها الوطني، بينما تخلّى عنه كثيرون ممن يمتلكون المنابر.
