أمد/ في روايته «عند بوابة السماء» الصادرة عام ٢٠١٩ عن مكتبة كل شيء في حيفا، يفتح الكاتب جميل السلحوت جرحًا قديمًا في الذاكرة العربية، جرحًا لا يزال ينزف رغم مرور العقود.
من بين أزقة القرى الفلسطينية والأردنية، تنبثق الحكاية كصدى لوجعٍ جمعيّ، يرصد تحولات الإنسان العربي وهو يتأرجح بين القداسة والعار، بين السماء والأرض، بين الذكر والأنثى.
هذه الرواية ليست مجرّد سرد لأحداثٍ ماضية، بل محاكمة أدبية عميقة لبنية المجتمع الأبوي الذي حوّل الأنثى إلى ظلّ، والرجل إلى سجانٍ أسيرٍ لقيمٍ صنعتها الخرافة وباركتها العادات.
الحكاية التي تكشف البنية
ينسج السلحوت روايته على خيوطٍ متينة من الواقعية الشعبية، مستندًا إلى بيت الشيخ فالح كنواةٍ تمثّل السلطة الذكورية في أعتى صورها.
البيت الكبير بزوجاته السبع وأبنائه وأحفاده ليس مجرّد مسرحٍ للأحداث، بل هو مؤسسة اجتماعية مصغّرة تعكس النظام الطبقي والهيمنة الأبوية التي تحكم القرى والقبائل.
كلّ ما فيه من طقوس القهوة إلى توزيع الميراث يشير إلى تراتبية قاسية تقف فيها المرأة في قاع السلم، فيما تُمنح الكلمة للرجل حتى لو نطق بالباطل.
لكن الكاتب، بدهاء فني، لا يصرخ بوجه المجتمع، بل يتركه يفضح نفسه من خلال تفاصيله اليومية.
فالحكاية تمضي ببطء، كأنها ترسم على الرمال أثرًا، ليكتشف القارئ أن ما يرويه السلحوت ليس ماضيًا بعيدًا، بل صورة مكبّرة لحاضرٍ يتكرر في كل بيت عربيّ حتى اليوم.
المرأة… المرآة والميدان
تتجسد زينب ووضحة كنموذجين متكاملين للتجربة الأنثوية في مجتمعٍ لا يرى في المرأة سوى امتدادٍ للعار أو وسيلةٍ للبركة.
زينب، المرأة التي تعيش داخل فخّ التعدد، تتقن فنّ البقاء وسط ضرائرها بذكاءٍ أنثويّ عميق.
تدير بيتها كما يدير السياسي مملكته، تعرف متى تصمت ومتى تبتسم، ومتى تحوّل الوجع إلى سلاحٍ ناعم.
هي المرأة التي تعيش داخل المنظومة وتعيد تشكيلها لصالحها دون أن تهدمها.
في المقابل، تمثّل وضحة بنت مناور الوجه الآخر: الأنوثة البريئة، الطاهرة، التي لا تجيد التمثيل ولا تعرف المساومة.
تحبّ بصدقٍ، وتخسر لأنها صادقة.
تُقدَّم كأضحيةٍ على مذبح الأعراف حين تصطدم بغيرة النساء وتسلّط الرجال، فيتبدد حلمها بالحب كرمادٍ في الريح.
من خلالها، يعيد السلحوت صياغة السؤال الأزلي:
هل يولد قهر المرأة من سلطة الرجل وحده؟ أم من تواطؤ النساء أنفسهن مع تلك السلطة؟
الذكورة كقيدٍ نفسيّ
في روايات كثيرة، تُقدَّم الذكورة كمصدر قوة، لكن السلحوت يقلب المعادلة:
الرجال عنده ضحايا ذكورتهم قبل أن يكونوا طغاة.
الشيخ فالح، الذي يتباهى بسلطته، يعيش قلقًا دائمًا من فقدانها.
أبناؤه، الذين يبدون أقوياء، يحتمون بأقنعة الصرامة لأنهم يخافون من هشاشتهم.
حتى حين يحبّون، فإنهم يخافون من الحب لأنه ينزع عنهم لقب “الرجل الكامل”.
بهذا المعنى، تتحول الرواية إلى دراسةٍ عميقة في سيكولوجيا القهر: المرأة تُقهر بجسدها، والرجل يُقهر بمفهوم الرجولة الذي وُلد فيه ولا يستطيع الانفكاك عنه.
إنها رواية عن مجتمعٍ يصنع جلّاده بيديه، ويعلّمه أن البكاء عيب، وأن الرحمة ضعف، وأن السيطرة فضيلة.
بوابة السماء… بين القداسة والخذلان
العنوان في ذاته مفتاح رمزي.
«بوابة السماء» ليست مكانًا جغرافيًّا بقدر ما هي رمز للوعي الجمعيّ الذي ينتظر الخلاص من الخارج.
القدس في الرواية ليست جغرافيا مقدّسة فحسب، بل حلم الإنسان المقهور بالنجاة، المكان الذي يتطهر فيه الناس من ذنوبهم الاجتماعية، لكنهم سرعان ما يعودون ليغرقوا في الطين ذاته.
إنها مفارقة وجودية: نحن نبحث عن السماء بينما ندفن إنسانيتنا في الأرض.
اللغة… بين البساطة والدهشة
يتقن السلحوت لغةً متينة تجمع بين جمال السرد الشعبي وصرامة اللغة الفصحى.
كل جملة في النص تشي بانتمائه إلى الأرض، إلى لهجة الريف التي تفيض دفئًا وحكمة.
الكاتب لا يزخرف لغته، بل يتركها حية كما تُقال في المجالس، لكن خلف بساطتها تكمن رؤية نقدية فلسفية تلامس العمق الإنساني.
إنها لغة تعرف متى تهمس، ومتى تصرخ، ومتى تكتفي بالنظر.
الرواية كمرآة للمجتمع الحديث
برغم أن أحداثها تدور في زمنٍ ماضٍ، إلا أن «عند بوابة السماء» تنتمي بعمقٍ إلى اللحظة العربية الراهنة.
فما زالت القيم التي تُدين وضحة وتحاكمها حيةً في واقعنا، وما زال صوت الشيخ فالح يتردد في البيوت والسياسة والدين والإعلام.
الرواية بهذا المعنى ليست نصًّا تاريخيًّا، بل تشخيصًا اجتماعيًّا جريئًا لمرضٍ مزمنٍ اسمه الخضوع للعرف.
إنها تُعرّي ازدواجيتنا: نطلب الجنة ونحن نُغلق أبوابها على نصفنا الآخر — المرأة.
خاتمة: بوابة الخلاص في الداخل
في نهاية القراءة، ندرك أن «بوابة السماء» التي يتحدث عنها السلحوت ليست في القدس وحدها، ولا في السماء فعلًا، بل في داخل الإنسان العربيّ نفسه.
حين يتحرر من وهم السيطرة، حين يتصالح مع أنوثته الداخلية، حين يعترف أن الحب ليس ضعفًا بل خلاصًا — عندها فقط سيفتح باب السماء.
هذه الرواية ليست مجرد عمل أدبي، بل صرخة توعوية مغلّفة بجمال الحكاية.
جميل السلحوت لا يكتب رواية؛ إنه يكتب وصيّةً إنسانية للأجيال:
“لا يمكن للأمة أن تصعد إلى السماء وهي تجرّ خلفها قيودها القديمة.”
