.. عندما تُسرق ثروة التربية والأخلاق!!
أبدأ مقالتي اليوم بقصة تبدو غريبة، وهي أن رجلا كانت عنده ثروة كبيرة من الجواهر واللآلئ، ولكنه لم يحفظها في مكان أمين، بل أودعها بيته الذي هو على الطريق العام، ولم يجعل على البيت حرّاسا، ولم يكن متيقظا، فنوافذه مفتوحة، وأبوابه مشرعة، فمرة من المرات، تسلل بعض اللصوص وسرقوا شيئا يسيرا من هذه الثروة، فلم يلتفت إلى ذلك، ولم يحتط لثروته، بل ترك الأبواب مفتوحة بعد أن كانت النوافذ فقط، فكثر اللصوص وعظمت السرقات، فماذا فعل؟ أزال النوافذ، وخلع الأبواب، حتى كادت كل الثروة أن تنتهب، وحينئذ، وضع يده على وجهه متحيّرا متندّما، ناظرا في أمره، كيف يحرس ثروته وقد ضاعت، وكيف يبقي ماله وقد سرق!!
إن الذي يقرأ القصة يعتقد لأول وهلة أنها خيالية، ولكنها في الحقيقة صحيحة وواقعية، فإننا جميعا يصدُق فينا أننا مثل ذلك الرجل، تركنا ثرواتنا نهبا لكل سارق، حتى إذا عظمت السرقات ووصلت إلى أعلى الدرجات، وقفنا نفكر ونتساءل: كيف سُرقنا؟ وكيف ذهبت ثرواتنا؟ ولكي أزيل الغموض، أقول: إن الذي سُرق منا ليس الأرزاق، بل الأخلاق، وإن الذي ضاع منا ليس الأموال، بل الأحوال، وإن الذي تضرّر منا ليس الأبدان، بل الإيمان. لو تأملنا في هذه المعاني قليلا، لشعرنا جميعا أنه قد سلب من إيماننا ومن ديننا ومن أخلاقنا كثير وكثير مما كنا عليه حريصين، ومما هو ثروة أعظم من كل ثروة، هل نتنبّه عندما تحلّ الكوارث الكبرى، فالأخطار تتفاقم، والأضرار تتكاثر، وثمّة أمور يغفل عنها الناس ولا ينتبهون إلى خطرها إلا عندما تشتعل النار، وتعظم الأخطار.
ولعلّي بعد هذا الإجمال أشير إلى شيء من التفصيل، فالتربية ضاعت منا، فأين نحن من الحفاظ على إيماننا، وسمت إسلامنا، ونضارة أخلاقنا في واقع بيوتنا، وفي سلوك أبنائنا، وفي منظر شوارعنا، وفي كل لمحة وحركة وسكنة من حياتنا، فأبناؤنا سلمناهم للشوارع تختطف أخلاقَهم، وتركناهم لرفقاء السوء والسوق يسرقون حياءهم، تركناهم حتى أفسدوا فيهم نقاء الفطرة، ونهبوا منهم معاني الحياء، واختلسوا منهم صور الوضاءة والنقاء، وبعد ذلك لا نشعر بأن أمرا قد وقع، أو أن ضررا قد حلّ، أو أن ثروة قد سُرقت، لكنه لو سُرق مبلغ زهيد من المال، لأقمنا الدنيا ولم نقعدها، دون أن نبحث عمّن سرق الإيمان والإسلام والأخلاق، ونحتاط لهذه الأموال فنودعها في البنوك، أو نجعل لها الخزائن، أو نحفظها في الأماكن السرية، دون أن نحرص على حفظ أخلاق ودين أبنائنا وأنفسنا.
ولعلّ السبب في ذلك هي المقاييس الخاطئة التي نقيس بها في أسرنا؛ فالدراسة، رغم أهميتها، هي مقدّمة عند الكثير من الصلاة والقرآن والمسجد؛ لأن الدراسة يُسأل عنها، ويُصرف عليها، ويُنظر في نتائجها، أما الصلاة والقرآن والمسجد، فلا تكاد ترد في سؤال، ولا تخطر على بال إلا من رحم الله. وهكذا، أصبحنا كحال ذلك الرجل، سرقت منا أعظم الثروات التي نملكها، فإذا سُرق الأبناء والبنات، وضاعت الأسر، وحلّت هذه الكوارث، فأي شيء يبقى بعد ذلك؟
قد يقول قائل: ولماذا رسمت هذه الصورة السوداء القاتمة، الصورة المخيفة المرعبة؟ أقول: أجل، إن ذلك لمقصد، وهو أن نشعر أنفسنا بأن الخطر حقيقي، وأن السرقات قد كثرت، وأن الثروات قد ضاعت، فإن لم نشعر بذلك، فلن نغلق أبوابا، ولن نسدّ نوافذ، ولن نحكم احتياطا، ولن نأتي بحراسة، ولن نقوم بشيء مهم لنا هو أساس حياتنا، إنه ديننا، إنه إيماننا.
ترى ماذا كان عرب الجزيرة قبل الإسلام؟ لقد كان القوم يعيشون على هامش التاريخ، لا يعرف أحد لهم ذكرا، ولا يسطر لهم التاريخ في صفحاته سطرا، فما الذي جعلهم قادة وسادات العالم؟ وما الذي جعلهم يأتلفون من شرق ومن غرب، ومن أسود وأبيض، ومن كل اللغات والثقافات؟ إنه الإسلام العظيم، إنه الإيمان واليقين، إنه لا قيمة لأمة لا دين لها، ولا قيمة لحضارة لا أخلاق لها، فالذي يتخلى عن دينه وأخلاقه ومبادئه، قد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.. والله ولي التوفيق.
* إمام مسجد عمر بن الخطاب
بن غازي براقي