عمر قصير بعدد السنين.. طويل بالذكريات والمعاناة
تحتفل “” بذكرى ميلادها الـ33، هو عمر قصير بعدد السنين، ولكنه طويل قياسا بالمحطات والذكريات والصعاب والمعاناة التي رافقت كل خطوات هذه المسيرة، لأن التحدي فيه لم يكن يقتصر على تحقيق النجاح في حد ذاته، وإنما الأهم منه هو ضمان استمرار وديمومة هذا النجاح، خصوصا عندما تجعل من سقف التحدي “الصدق والمصداقية” عنوانا له.
ذكرتنا حرب غزة، مرة أخرى، أن الإعلام، صورة وصوتا، مكتوبا أو إلكترونيا، ليس فقط من أقوى أسلحة المعركة التي تقتضي الحرص على إتقان فنياتها وأساليبها وتكييفها مع المستجدات الآنية، وإنما على ضرورة الاهتمام بصيانتها وتقويتها ودعم رجالها وممارسيها، بنفس القدر أو أكثر مما هو مخصص من صيانة للرشاش والمدفع والدبابة، لأن أي ضعف في نشاطها أو أي تراجع في مهنيتها ومصداقيتها ومساحة حريتها سيفتح ثغرة في جدار المعركة.
ولمن لا يزال لديه شك في أهمية وسائل الإعلام، يكون قد لاحظ بأم أعينه، منذ أحداث حرب الكيان المحتل ضد الفلسطينيين، أن العبرة في الإعلام ليست في الكم بقدر ما هي في النوع والجودة، وأن ملايين البشر الذين خرجوا إلى الشوارع في مختلف عواصم العالم لم تجرفهم “البروباغندا” الصهيونية على شدتها وتعدد أذرعها، وإنما أثرت فيهم وفي بناء مواقفهم، ثقتهم في احترافية ومصداقية وموضوعية بعض وسائل الإعلام دون الأخرى، فالتحول إلى مجرد “بوق” إعلامي لا يعني أنك ستكون مسموعا، مثلما يعتقد البعض، وحتى وإن تم سماعك فتأثيرك ظرفي ولا يرقى إلى صنع رأي عام، وهو هدف في أي معركة.
وفي ذكرى إطفاء “” شمعتها الـ 33 لميلادها، يعود نفس السؤال: هل نحن في المستوى؟ وماذا يقال عنا في حضرتنا وفي غيابنا، عن محتوى منتوجنا الإعلامي ودورنا في الساحة، ماذا عن صدقنا وضعفنا وانحنائنا، وعن سر عدم سقوطنا وصمودنا، رغم الداء والأعداء. جريدة “”، هناك من يسهل عليه إلصاق تهمة “بيع الماتش”، والاستسلام لضغوط السلطة والمحيط، ومثل هؤلاء لا يختلفون في شيء عن الذين يعتقدون أن حرية التعبير “امتياز” خاص للصحفيين أنفسهم، بينما هي قضية تخص المجتمع برمته سلطة ومعارضة، أحزابا وجمعيات وقضاة ومواطنين. وتحقيق حرية التعبير والصحافة وحمايتها وترقيتها والزيادة فيها، يجب أن يكون مجهود نضالات يومية فردية وجماعية، ومن الخطأ الكبير تحميل مهمتها لعاتق جهة أو حزب أو جريدة أو نقابة وحدها، ومن الخطأ أيضا الاعتقاد أنها بيد السلطة تمنحها طواعية عن طيبة خاطر ما لم تتضافر جميع الجهود للضغط والدفاع عنها لجعلها مشروعا مجتمعيا، وهو ما يحتاج إلى عمل كبير ينتظرنا جميعا.
ولن نضيق ذرعا أبدا من عبارات اللوم والعتاب التي تصلنا من القراء، فمنهم من يسأل بحسرة “لم تعودوا كما كنتم”، ومن حقه أن يطلب المزيد، ومنهم من يتفهم ويجد المبررات لـ”الوقت الصعيب”، ومنهم من يتأفف ويطلق سيلا من الانتقادات ضد هذا الجيل الذي “خان”، على حد قوله، ذلك الجيل، وهناك أحزاب تضحك على حدبتنا، ولا تنظر لنفسها، لأنها فقط تريد أكل الشوك بفمنا، رغم أن الكل يعلم أن قوة الصحافة مستمدة من قوة طبقتها السياسية ومن برلمانها ومن قضائها ومحاميها ومجتمعها المدني، ومن فعالياتها الاقتصادية والاجتماعية والنقابية، ووهنها وهشاشتها لم تكن يوما خيارا إراديا لديها، بقدر ما هو انعكاس لمحيطها الذي تعيش فيه وتتعاطى معه بإيجابياته وسلبياته. ومن هذا الباب، فالتغيير المنشود ليس بمقدور السلطة فعله وحدها، حتى لو أرادت، وليس بوسع المعارضة تحقيقه حتى لو تمكنت وتحكمت، وليس بمقدور القوانين فرضه فرضا، مهما كانت نصوصها جميلة ودقيقة، فهو محصلة عمل جماعي يقتضي التخلي فيه عن الأنانيات والعصبيات والزعامات والذهنيات والتصنيفات الفارغة. هذه ليست مبررات، ولا تهربا من المسؤولية، ولا هي استسلام لوضعية، فهو ليس من طبعنا ولا في قاموسنا.
33 سنة من الوجود، محطة جديدة لـ”” لتحقيق المزيد، لقناعتها بأن النجاح يبنى يوميا مع كل دقيقة، والصدق والمصداقية مثل الحليب فوق النار، الحفاظ عليه لا يحتمل لحظة غفلة أو نسيان عن قول الحقيقة، وأيضا هو محطة للآخرين، سلطة ومعارضة، للنظر إلى مهنة المتاعب كأولوية مثل الغذاء والدواء وحتى الهواء، خصوصا أن التحديات المحيطة بنا في الجوار القريب والبعيد أثبتت أكثر من مرة أنه لا مكان فيها للإعلام الذي يكتفي برد الفعل ولا يصنع الفعل، في ظل المنافسة الشرسة التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي على حساب أجهزة الإعلام التقليدية. ولا يمكن بكل المقاييس تحقيق هذه القفزة الإعلامية التي تعد ضرورية وليست اختيارية، من غير توسيع مجال حرية الممارسة الإعلامية فعلا وقولا، وكسر القيد الذي أدمى معصميها، ووضع الآليات الضرورية لتقويتها، لأن قوتها من قوة الدولة ومؤسساتها وليس العكس، وقد أظهرت الحرب الجارية في غزة أن المعركة الإعلامية فيها كانت أم المعارك وصنعت الفارق.