اخر الاخبار

على هامش رحيل القامة الأدبية الشاهقة إلياس خوري 

أمد/ نم هانئا..لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري..فوق سطح الأرض..

الإهداء:إلى الروائي والقاص والناقد والصحافي اللبناني الكبير إلياس خوري*..في رحيله الشامخ.

“العبرات كبيرة وحارة تنحدر على خدودنا النحاسية..العبرات كبيرة وحارة تنحدر إلى قلوبنا”( ناظم حكمت)

“أبدا لن يموت شيء مني..وسأبقى ممجدا على الأرض ما ظلّ يتنفّس فيها أديب واحد”( الكسندر بوشكينبتصرف طفيف)

 

“أنا أخاف تاريخاً لا يملك سوى رواية واحدة.التاريخ له عشرات الروايات المختلفة،أمّا حين يجمد في رواية واحدة،فإنّه لا يقود إلّا إلى الموت” إلياس خوري.

 

اقتادتك لبنان من يد روحك إلى فردوس الطمأنينة،بل ربما إلى النقيض.

ولكن..الكتاب العظام يولدون مصادفة في الزّمن الخطإ،ويرحلون كومضة في الفجر،كنقطة دم،ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر..

إلياس خوري: أوقعتك القافلة سهوا عنك،سهوا عنّا ومضيت قُبيل انتهاء الرواية دون وداع،فحين إكتفى معظم الأدباء ممن لامست إبداعاتك المتوهجة شغاف قلوبهم برثائك،والترحّم على رحيلك بدموع حارقة..

أديبنا الفذ : منذ رحيلك وأنا أحاول مجاهدا تطويع اللغة،ووضعها في سياقها الموازي للصدمة..للحدث الجلل..إننّي مواجه بهذا الإستعصاء،بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية،أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق..

ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما انبجس سطر من شقوق رواياتك العذبة.

ماذا تعني كلمات أو مفردات : منكوب أو مفجوع أو مدمّى أو منكسر؟

لا شيء..سوى الفراغ الذي كنت تملأه فيما مضى.يتسع بك ويضاء بالبهاء الإنساني والغنى الروحي الحزين جراء فساد العالم وخرابه..

الروايات الماتعة والصرخة الإحتجاجية التي تخترق في عنفوانها سجوف الصّمت،وتواجه بشموخ الإنحدار الرعوي وصلف حفاة الضمير..

الآن بعد رحيلكالقَدَريأعيد النظر في مفاهيم كثيرة،ربما كانت بالأمس قناعات راسخة،الآن يبدو المشهد الأدبي كأنّه مهزلة وجودية مفرغة من أي معنى سوى الألم والدموع..

أيّها الأديب المسافر عبر الغيوم الماطرة : لقد احتمى إسمك بالوجدان العربي حزنا صامتا عميقا سنظلّ نتوارثه جيلا بعد جيل..ونحلم بولادة مبدعين أفذاذ في حجم شموخك..

هذا الحلم ما يفتأ يعاود الظهور في كلّ مرّة تصبح فيه الكرامة العربية مجرّد ذكرى،وتصبح الشعوب العربية مثل الهوام لا أمل ولا فرح ولا نسمة تهبّ من جداول الإبداع..

وطوبى للحزانى لأنّهم عند الله يتعزّون.

أيا إلياس : الزّمان الغض،المضاء بشموس النصر والتحدي.الزمان المفعم بإشراقات القصيد،ما قبل إدراك الخديعة،بغتة الصدمة وضربة الأقدار..

الكون الحزين يرثيك.فرحة هي النوارس بمغادرتك عالم البشر إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين..

أنت الآن في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق،والتردّي إلى مسوخية ما قبل الحيوان.

والسؤال:

هل كان الحمام اللبناني يعبّر بهديله عن رغبته في اختطافك إلى الفضاءات النقية لتكون واحدا منقبيلتهبعيدا عن الأرض الموبوءة بالإنسان الذي تحوّل إلى وحش ينتشي بنهش الجثث،قاتل للحمام والبشر،معيدا سيرة أجداده القدامى منذ قابيل وهابيل حتى الآن..؟ !

نائم هناك على التخوم الأبدية،وروحك تعلو في الضياء الأثيري،طائرا أو سمكة أو سحابة أو لحنا في موسيقى.لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض.

في الزمان الحُلمي،كما في رؤيا سريالية،سأحملك على محفة من الريحان،بعد تطهيرك بمياه الوديان،من مصبات الأنهار والمنحدرات الصخرية بإتجاه البحر..سيسألني العابرون : إلى أين؟

في السماء نجمة أهتدي بها.أعرفها.تشير دوما إلى القدس.أنت أشرت إليها ذات غسق وهي الآن فوقبيروتتضيئها بلمعانها المميز عن بقية الكواكب.وهي تشير كذلك إلى المرقد والمغيب فوق أفق البحر في أواخر المساءات.أحملك نحوها لتغطيك وتحميك بنورها الأسطوري لتدخل في ذرّاتها وخلودها الضوئي..

قبل هذا الإحتفال الأخير سأطوف بك حولأحياء لبنانالتي أحببتها،معقل الصابرين،حيث يرثيك أهلك ومريدوكبدمع حارق يحزّ شغاف القلب..

يسألني العابرون أو أسأل نفسي:هل محاولة إستعادة نبض الحياة الماضية يخفّف من وطأة صدمة الموت؟..لا أعرف شيئا..

حين يأتي المساء الرّباني سنلتئم تحت خيمة عربية مفعمة بعطر الشعر.نشعل النيران في فجوات الصخور اتقاء للرّيح،ونبدأ الإحتفال في لحظة بزوغ القمر فوق بيروت..

أما أنتميا أيها الأدباء والمبدعون:إذا رأيتمالأديب الفذمسجى فوق سرير الغمام فلا توقظوه،إسألوا الصاعقة التي شقّت الصخرة إلى نصفين لا يلتحمان.

إذا رأيتمنجماساطعا في الصمت الأبدي فلا تعكرّوا لمعانه بالكلمات.

اسكبوا دمعة سخيّة على جبينه الوضّاء ،دمعة في لون اللؤلؤ،واكتموا الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح..

وأخيرا إذا رأيتم المغنّي الجوّال حاملا قيثارته،افسحوا له مجالا في الدروب لينشد أغنية الوداع للنجم الآفل..

تقول الأغنية:

هناك كثيرون أمثالك..أعلّوا وشادوا..

وفي كل حال أجادوا..

وأنت أنجزت كل الذي في يديك..

وما عرف المستحيل الطريق إليك..

لأنّك تؤمن أنّ الخطى إن تلاقت قليلا..

ستصبح جيشا وصبحا نبيلا..

وأنت ككل الذين أرادوا لوجه الحياة رداء جميلا..

تمنيت أن ينبلجَ الصبح من مقلتيك.

أن ينبجس الحرف من دمعتيك..

فعلت الذي كان حتما عليك..

ومن كان حتما على المبدعين..جيلا فجيلا..**

وداعا يا مبدع “باب الشمس”***.يا إلياس خوري..

*بعد رحلة طويلة في عالم الأدب والفن،توفي الأحد 15 سبتمبر/أيلول 2024 الروائي والناقد والمفكر اللبناني إلياس خوري عن 76 عاماً.

**في جميع كتاباته كان الراحل مثقفا مهموما بما يجري في الوطن العربي،وملتزما بالدفاع عن قضاياه المصيرية،وفي طليعتها قضية فلسطين،التي التحم بها وآمن بعدالتها إيمانا صوفيا.

***”باب الشمس” رواية للراحل إلياس خوري حولها المخرج المصري يسري نصر الله إلى فيلم سينمائي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *