أمد/ أرفقوا يا أهل الحل و الربط بهذه الجواهر الثمينة.. أدباء تحت ضنك العيش..وهم أهل الفكر والإبداع..!

“كلمة واحدة رقيقة أسمعها وأنا حي،خيرٌ عندي من صفحة كاملة في جريدة كبرى،حينما أكون قد متُّ ودُفنت ».

الفيلسوف الفرنسي الشهير “فولتير”

“لخيرٌ للأديب أن يموت جوعا من أن يبيع روحه لشيطان السلطان..” توفيق الحكيم

“..صوت الكلمة أقوى من سياط الجَلْد..ولسعات السيوف..”

« أن يعيش الإنسان مريضا مثلي في مثل هذه الحال البائسة التي عشتُه,فتلك أعجوبةٌ..فأما أن يكتب فتلك معجزةٌ » .

يجعلك الفقر حزينا كما يجعلك حكيما”، ظهرت تلك المقولة الشهيرة من واقع عاشه الكثير من الأثرياء بالعقل والفقر والإبداع، لكنهم افتقدوا للمال ومتاع الدنيا،انتهوا من رحلة الحياة وهم في غاية البؤس والفقر والحرمان.

وتميز هؤلاء المبدعين بالابتسامة المرتجفة ترتسم على شفاههم، يضحكون وهم يبكون،ولم تفارقهم العبارة المرحة وهم جائعون، وذاكرتهم معطاءة،في ذهنهم روايات وحكايات كلها ترف وابتكار وخفة ظل،مما دفع الشعراء والأدباء والمفكرين والباحثين قديماً وحديثاً أن يرصدوا ويدونوا نتاجهم وإبداعاتهم المتسمة بالمآسي وضنك العيش،وما زال نتاج هؤلاء الشعراء المبدعين نتوارثه جيلاً بعد جيل.

وإذن؟

إن الأدب إذا،ليس معاني وأفكارا فقط ،وليس صورا وتراكيب وحسب ،وإنما هو نتاج لعبقرية كامنة في نفس صاحبها ،تبدو في تأليف المعاني الممتازة ،والعبارة الجيّدة،والاهتداء إلى أفكار غير معروفة وغير متداولة.ومن يقدر على هذا غير الأديب الفذ المبدع الصادق في إبداعه.؟

غير أن معاناة المبدع الحق وهو يقدم عصارة أفكاره للغير ليست بالأمر الهين أو بالشيء السهل ،خصوصا إن كان المبدع وكيفما كان إبداعه يحيا بين ظهراني قوم تسود فيهم الأمية بأوسع مدلولاتها وآخر ما يفكرون فيه :المعرفة والثقافة ..

إن معاناة الفنان المبدع وليكن رساما أو نحاتا..موسيقيا .. شاعرا ..مسرحيا .. روائيا .. فالأمر سيان ..إن معاناة الفنان في هذه الحالة قد لا تتأتى في كثير من الأحيان نتيجة صعوبة عملية الإبداع فقط ،ولكن تكْمن المعاناة في المحيط الاجتماعي بكلّ مكوّناته وصُوره ،وتأثيره في الفرد المتلقّي.

معاناة المبدع:

إن الكثير منا يغفل،أو ينسى وهو في غمرة نشوته بقراءة عمل أدبي ما،أو التمتع بعمل إبداعي ما ،أن كان وراء هذه النشوة وذلكم التمتع ،تقف شخصيةٌ أدبيةٌ ونفسٌ تبدع قد تكون سعيدة،وقد تكون تحترق ألما وتتضور معاناة وتتمزق عذابا في سبيل هذا العمل الفني الجميل الذي نسعد به ونتلذذ بقراءته.

ولئن كان الطريق إلى المجد محفوفا بالأشواك،وتعترضه الأهوال والمخاطر،فإن المجد نفسه إلا جحيما يضع المبدع في أتون هذا الجحيم.ومن أصـــدق الذين عبروا عن هذا النوع من المبدعين الفنان الأديب الراحل جبران خليل جبران بقوله :

« لــم أدر ما يحسبه الناس مجداواحرّ قلباهجحيما..من يبيعني فكرا جميلا بقنطارمن الذهب ؟ من يأخذ قبضة من جواهرَ لبرهة من حبّ ؟ من يعطيني عينا ترى الجمال ويأخذ خزانتي ؟ »

ولعل أحد الفلاسفة الألمان يلتقي مع جبران في ذلك لمّا يقول :

« الحياة قصص،أجملها ما يكتب بالدماء ».

لكن هل يعرف الناس درجة هذه المعاناة وقيمة الدموع المنسابة،سيّما في مجتمعنا العربي وبطبيعة الحال فالجواب بالنفي.ومن هنا فالمبدع في هذه البلاد على امتداد رقعتها الشاسعة كثيرا ما يقضي نحبه ضحية الجوع البيولوجي ،أو يختفي رويدا تحت شراسة معول الفاقة والاحتياج مودعا الدنيا غير مأسوف عليه ،والقليل من هؤلاء المبدعين قد يُـرفع شأنهم ، وتُـمدح مآثرهم ،وتُحي ذكراهم فيما بعد ،أو يُكرّمون بعد رحيلهم عن هذه الدنيا كما هو الحال في بلادنا.والشواهد في ذلك كثيرة …ولقد تطرق إلى هذه المأساة قبل عشرات السنين الفيلسوف الفرنسي الشهير “فولتير” حينما صرخ بحرقة وألم يستنهض ضمائر المجتمعات حتى تلتفت لعباقرتها ومفكريها، وتقدر قيمتها في حياتها قبل مماتها :

« كلمة واحدة رقيقة أسمعها وأنا حي،خيرٌ عندي من صفحة كاملة في جريدة كبرى ،حينما أكون قد متُّ ودُفنت ».

هذا من الجانب التقديري والمعنوي،أما إذا تعدّى الأمر إلى الجانب المادي فالمأساة تكون أشدَّ وقعا على نفسية الفنان المبدع.وتبعا لذلك فقضية موارد رزق الأدباء والفنانين والمفكرين مطروحةٌ اليوم مثلما كانت مطروحة في الماضي البعيد أو القريب *،وتأكيدا هي باقيةٌ دوما في الكثير من البلدان المتخلفة التي تضع المعرفة وأهلها في آخر اهتماماتها.!

إن عدد المفكرين والمبدعين الذين يعيشون من مردود التأليف الأدبي والفكري في العالم المتقدم ليس بالكثير،وحتى هؤلاء إبداعاتهم لا تحتضنها دور النشر الكبرى إلا إذا تيقنت أنها ستٌدرّ عليها أرباحا طائلة وفي كل الحالات فإن المبدع أو الكاتب ما يتقاضاه قليلٌ بالمقارنة مع ما يبقى لدُور النشر.وفي البلاد العربية فالكتابة لا تُطعم خبزا،ولا تسدُّ رمق متعاطيها مِن الكتاب والمبدعين العرب المعروفين والمجهولين،ومَنْ يرتزق من مردود قلمه إلا القليل وغالبا ما تكون لهم دورٌ نشر خاصة بهم كالشاعر الراحل نزار قباني،والشاعرة الكويتية سعاد الصباح،والكاتب الموسوعة عندنا الدكتور أحمد بن نعمان صاحب دار الأمة للنشر ،

وهذا على سبيل المثال فقط.

في بلادنا العربية إن كان المبدع يدرك جيدا أن الكتابة لا تطعمه خبزا،إنْ لم ينتحرْ احتجاجا على جوع البطن،فإنه قد ينتحر احتجاجا على حرية مصادرة الفكر،وحرية التعبير.وليس بالضرورة أن يكون الانتحار إنهاءً للحياة الفردية للمبدع،وإنما قد يكون الصمتُ الأبدي والإعراضُ عن القلم ،أو الهجرة إلى فضاءات أخرى أكثرَ حرية،وأفضل اعتبارا وأحسن تنفسا.

وإذا كان البعض من أهل الفكر لا يرى الخطر في الجوع البيولوجي جوع البطن لأن الكاتب المفكر..الفنان قد يحيا بالقليل والبسيط من الغذاء،فإن هناك جوعا أخر أشرس وأفتك به إنْ تعرض له .. إنه الجوع إلى حرية التفكير وحرية التعبير ..جوعه الدائم لتحقيق رؤاه على أرض الواقع ..جوعه المستمر لزرع الكلمة الهادفة..حلمه الأبدي في عالم جميل ينعم فيه الجميع بالأمن والأمان والكلمة إنْ كانت صادقة ،كانت أحدّ من السيف..وأمضى من السهام الحادة.والرأي عندنا أن كلا الجوْعين خطرٌ على المبدع ويقضيان عليه نهائيا.

إن الإنسان كيف ما كان وأينما هو..وهو يحيا الثنائية الملازمة له منــذ وجوده على وجْه المعمورة :

البؤس والنعيم ..الرضا والسخط ..الرحمة والقسوة ..الإنسانية والوحشية ..الظلم والعدل ..النفس السمحة .. الطبع الجاف الغليظ ..هذا الإنسان ذو الثنائية في كل شيء ..مجالٌ رحبٌ بدون حدود ..لقلم الأديب وريشة الفنان يستمد منه فنه ..نثره وشعره. ولكن أبمقدور الفنان المبدع كشْف خبايا هذا الإنسان المتناقض إن لم توفر له الشروط الضرورية المساعدة : عيش كريم ..حرية .. اعتبار اجتماعي ومعنوي؟ .والحرية في مدلولها الشامل هي التحرر من كل ما يفرضه الغير بدون حق.

فالمبدع وجوده مرهون بتوفر الحرية..وبطبيعة الحال ليست الحرية المطلقة..الحرية التي تسيء إلى الآخرين ..بل الحرية التي تقف حيث تبدأ حرية الغير.فالإشباع البيولوجي،والإشباع الكينونيإن صحت العبارةلمبدع كلاهما يكمل الآخر 

إن ظاهرة الفاقة أدركت الكثير من أهل الأدب منذ الأزمنة الغابرة ولا تزال.وهي في الحقيقة ليست لعنة انصبت على رؤوسهم طالما أنهم احترفوا الأدب أو احترفهم هو ..واتخذوا القلم أداة لنشر أفكارهم ورؤاهم في الناس ..وعلى الناس .وبنظرة أعمق ،إن هناك عوامل محيطية وموضوعية وأخرى ذاتية ترتبط بظاهرة الاحتياج المادي التي لازمت هؤلاء،ومن الواجب والحالة هذه طرح السؤال التالي:

ـ هل هناك علاقة بين الأدب،وفاقة الأديب المبدع ؟ أو بين الأدب وإقبال الدنيا ولين العيش عنه..؟

وهنا..يظل السؤال عاريا،حافيا..ينخر شفيف الروح..

على سبيل الخاتمة :

إذا لم تعش حياة بائسة،فأنت لن تصل بالكتابة إلى جذورها وبالتالي تفردها.هذه هي النتيجة التي ما فتئ الأغلب من المهتمين بالكتابة الإبداعية المتميزة يرددونها في كل مناسبة وفي كل محفل.لكن ما الذي تعنيه الحياة البائسة بالنسبة للكتابة الإبداعية وتفردها؟ والأهم لماذا تم ربط هذا بذاك؟.

بالنظر إلى تاريخ حياة المبدعين على مستوى العالم،فإنك لا تجد في سيرهم ما يخلو من بؤس وعذاب وألم،يقل أو يكثر عند هذا أو ذاك،غير أنها في النهاية كما يؤكد الكثير من الدارسين تمثل ينبوعا لا ينضب،يمد هؤلاء المبدعين بشلال من الإبداع،لا يتوقف طالما الينبوع لم ينضب أو على الأقل لم يقل منسوب مياهه.هناك سلسلة طويلة من الأسماء التي يشار إليها بالبنان حول الآلام التي لازمتهم طوال حياتهم،وكانت سببا رئيسيا خلف السر وراء تميزهم الإبداعي..وفي هذا الموضوع..قد أريق الحبر الغزير..!

وهنا أقول : إن الأدب التونسي المعاصر يضم تحت لوائه العديد من المبدعين المناكيد الذين ضاقوا بالحياة وتبرّموا بها،وكان أملهم وبلادهم تنعم بالحرية أن تمتدّ إليهم أيادي الرعاية،والعرفان بالجميل بتوفير الشروط المادية والمعنوية لنشر نتاجهم الفكري وإبداعهم الأدبي،وسَماع رأيهم في أهم القضايا المصيرية للأمة،وأن يُوفر لهم الحدّ المقبول من العيش الكريم حتى ينطلقوا مغردين في خمائل الفكر والمعرفة وشتى أنواع الإبداع..مساهمين بفعالية في رفع مستوى المعارف والأفكار ..والعمل على تأسيس ثقافة صادقة متألقة ومتجذرة دوما،ولقد فشلنا بكل أسف في هذا حتى الآن.

إن الكلمة المكتوبة مصباحٌ أبديٌ مضيءٌ في دهاليز التاريخ..الكلمة المكتوبة جوهرة ثمينة لا يزول وهَجها الساحر داخل حفريات التاريخ وعبر دروبه..الكلمة المكتوبة سلطة قوية تمارس سلطتها ..نفوذها داخل الذات..داخل دهاليز الفكر الإنساني .

أهلُ الفكر والإبداع مصابيحُ مضيئةٌ ووهاجة في مسيرة الإنسانية ..أرفقوا يا أهل الحل و الربط بهذه الجواهر الثمينة..

وهنا أختم : تاريخ من الفقر المدقع سجله معظم المثقفين والأدباء والمبدعين أمثال أبي حيان التوحيدي،وسيبويه المصري، وعبدالحميد الديب،ودبشة الجزار،وإمام العبد،فهل تغير الوضع الآن؟.!

وأخيراً يمكن القول أننا جميعاً،كتاباً ومؤسسات ومنظمات واتحادات،نتحمل المسؤولية التاريخية عن حالة البؤس الراهنة التي اصابت الحياة الثقافية العربية في الصميم.وان الخروج منها يتطلب توحيد كل الجهود والطاقات من اجل اعادة الوهج للكلمة والعمل على صياغة مشروع تغييري قومي ونهضوي حضاري شامل يستند الى رؤية جدلية للواقع العربي بكل ابعاده الثقافية والروحية والفكرية ورفع مستوى مجتمعاتنا من النواحي المادية والاقتصادية والعلمية وتجديد الحياة العربية،وارساء التقاليد الديمقراطية وتشجيع الابداع الحقيقي والهادف ودعم الكتاب والمبدعين العرب.

وأرجو..منك يا سيادة الوزيرة ( وزيرة الشؤون الثقافية) أن تستسيغ رسالتي جيدا..وأن لا يقع إخراجها عن سياقها الموضوعي..!

*يوم 4 جوان 2025 لقاء حواري حوالتغطية الإجتماعية للفنانين والمبدعين..

تحتضن قاعة عمار الخليفي بدار الثقافة يوم الإربعاء 4 جوان على الساعة العاشرة صباحا،اللقاء الحواري حول التغطية الإجتماعية للفنانين والمبدعين تحت إشراف وزيرة الشؤون الثقافية،ووزير الشؤون الإجتماعية،وذلك في إطار النهوض بواقع المنتسبين إلى الميدان الثقافي عموما،والقطاع السينمائي خاصة..!

شاركها.