أمد/ مع الإعلان عن لقاء مرتقب بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، تمهيدًا لقمة ثلاثية مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، يبدو أن النظام الدولي على وشك التحوّل نحو تفاهمات كبرى تُعيد رسم موازين النفوذ العالمي، على نحو يعيد إلى الأذهان اتفاقيات يالطا وبوتسدام التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وحددت مناطق النفوذ وقواعد الاشتباك بين القوى العظمى.
وإذا كانت تلك المؤتمرات قد قسمت أوروبا والعالم إلى معسكرات، فإن ما يُطبخ اليوم، وفق تقارير ومؤشرات متقاطعة، يهدف إلى خلق “نظام دولي مرن” يقوم على توزيع النفوذ لا فرض القيم، وعلى تقاسم إدارة الأزمات بدلًا من حلّها، وسط انكفاء الدور الأممي وتراجع شرعية المؤسسات الدولية.
منطق الصفقة لا القيم: بحسب تقرير صادر عن مؤسسة Carnegie Endowment (يوليو 2025)، فإن “التفاهمات بين واشنطن، وموسكو، وبكين بدأت تتبلور على أسس مصالح متبادلة، لا قواعد أخلاقية أو قانونية”، فيما نشرت مجلة Foreign Affairs (يونيو 2025) تحليلًا بعنوان “عودة يالطا؟” توقعت فيه قيام نظام عالمي ثلاثي، يعيد توزيع مناطق التأثير ويدير النزاعات الكبرى من أوكرانيا إلى تايوان مرورًا بالشرق الأوسط.
أما دراسة صادرة عن مركز الدراسات الجيوسياسية الصيني (CSG)، فقد أكدت أن “التصعيد المتعدد الجبهات يُحتوى من خلال ترتيبات ثلاثية لا تعترف بدور أطراف محلية صغيرة”، ما يُنذر بتهميش قضايا مركزية مثل القضية الفلسطينية، ما لم يتم فرضها على جدول الأولويات الدولية.
فلسطين: خطر التهميش أو فرصة التموضع…؟!
وسط هذا التوجه الخطير، تبرز مبادرة دولية جديدة قد تُشكّل نقطة توازن ضرورية: وهي المؤتمر الدولي لحل الدولتين، الذي دعت إليه كل من فرنسا والمملكة العربية السعودية، بمشاركة الاتحاد الأوروبي، والأردن، ومصر، ودول من إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. يأتي هذا المؤتمر في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي الدموي على قطاع غزة والضفة الغربية، ما أعاد طرح سؤال: إلى متى يمكن للمجتمع الدولي تجاهل الحقوق الوطنية الفلسطينية ..؟
إن هذه المبادرة تعكس إرادة كتلة دولية متنامية لفرض حل الدولتين كأرضية إجماع دولي، والانتقال من مجرد التنديد إلى الضغط السياسي الممنهج، سواء عبر مجلس الأمن أو عبر آليات التحرك الثنائي والمتعدد الأطراف.
وقد أعلنت الرياض وباريس أن “الشرق الأوسط لن يعرف الاستقرار ما دامت الحقوق الفلسطينية معلقة أو مؤجلة”، في موقف يؤشر إلى نفاد صبر العواصم العربية والكبرى من مراوغات الاحتلال.
ويبق السؤال أي موقع لفلسطين بين الكبار…؟!
التناقض الصارخ بين ما تسعى إليه كتلة دعم حل الدولتين وبين التفاهمات الجارية بين القوى الكبرى الثلاث (الولايات المتحدة، روسيا، الصين)، يضع القضية الفلسطينية أمام مفترق طرق حاد: فإما أن تتحول إلى مجرد ملف إنساني يُدار ضمن تفاهمات النفوذ، أو أن تفرض نفسها كقضية سياسية بامتياز من خلال الاصطفاف الذكي مع التحركات الدولية الجادة.
من هنا، لا يمكن للقيادة الفلسطينية أن تكتفي بدور المتفرج، بل يجب أن تتحرك بفعالية لإعادة التموضع ضمن المعادلة الدولية الجديدة، مستفيدة من الزخم المتولد عن مؤتمر حل الدولتين، ومن الدعم العربي والدولي المتجدد للحقوق الفلسطينية، قبل أن يتم تجاوزها بالكامل في طاولة “يالطا جديدة”.
خلاصة القول:
لا حياد في لحظة التحول، العالم يعاد تشكيله بالفعل، على وقع القمم الكبرى والصفقات الأمنية والاقتصادية.
إما أن يكون الفلسطينيون طرفًا في هذا التشكيل، عبر توحيد موقفهم السياسي والانخراط في التحركات الدولية الجادة، أو سيجدون أنفسهم مرة أخرى ضحية لتفاهمات تُعقد فوق رؤوسهم.
لقد آن أوان القرار: إما اقتحام الطاولة بصوت الحق، أو القبول بالهامش والتصفية التدريجية للحقوق.
والفرصة لا تزال سانحة .. وهنا تتحمل القوى والفصائل الفلسطينية المختلفة مسؤولية كبرى كي تنهي حالة التشرذم والإنقسام والاصطفاف في إطار منظمة التحرير الفلسطينية ومشروعها الوطني دون مراوغة أو تسويف … كي تكون فلسطين على الطاولة الدولية كقضية تحرر وطني بإمتياز … ولكن هذه الفرصة السانحة ستبقى إلى حين، علينا التقاطها قبل فوات الأوان .. ويحل ساعتها بنا الندم.