أمد/ أعلنت إسرائيل عن إطلاق عملية احتلال قطاع غزة بالكامل تحت  اسم “عربات جدعون 2”. وكانت قد أطلقت النسخة الأولى من العربات في منتصف أيار/ مايو الماضي، مع التحلل في منتصف آذار/ مارس من اتفاق وقف إطلاق النار بداية كانون ثاني/ يناير، الذي استمر ستة أسابيع تقريباً. 

أدت النسخة الأولى من العربات إلى احتلال مساحة 75 في المئة من قطاع غزة وتدميرها، ومقتل وإصابة 60 ألف مواطن فلسطيني، من دون أن تحقق الأهداف المعلنة لجهة استعادة الأسرى والقضاء التام على حماس. وهي الأهداف التي تعرف قيادة الجيش كما حكومة بنيامين نتنياهو أنه من المستحيل تحقيقها عسكرياً. 

ومن المتوقع أن تلقى النسخة الثانية من “عربات جدعون” المصير نفسه، وستؤدي إلى النتيجة نفسها لجهة القتل والتدمير وإعادة احتلال كامل القطاع، إضافة إلى حشر سكانه 2 مليون نسمة بعد خسارة وفقدان 350 ألف  تقريباً منذ بداية  الحرب في 10 إلى 15 في المائة من مساحة القطاع، في منطقتي “المواصي والوسطى” وجزء من مدينة رفح المدمرة عن بكرة أبيها. 

 

الحرب لن تستمر إلى الأبد

ولن تحقق العملية الجديدة الأهداف المعلنة التي توسعت إلى خمسة، لكنها بقيت متمحورة حول الهدفين السابقين؛ أي القضاء على حماس واستعادة الأسرى. ولن يكون بإمكانها إنقاذ نتنياهو من مأزقه السياسي في ظل الافتقاد إلى تصور واقعي ومتفق عليه وقابل للتنفيذ، فلسطينياً وعربياً ودولياً،  لليوم التالي للحرب التي لن تستمر إلى الأبد. 

لا تقلّ عن ذلك أهميةً استحالةُ الهروب الدائم وإلى ما لا نهاية من الاستحقاقات الداخلية المتمثلة بحتمية تشكيل لجنة تحقيق رسمية في إخفاقات 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وإجراء الانتخابات العامة المبكرة التي باتت سؤال متى لا هل؟ وتُجمع كافة استطلاعات الرأي على استحالة فوز حزب نتنياهو وائتلافه المتطرف فيها، وبالتالي نهاية حياته السياسية، وربما دخوله السجن أيضاً على خلفية تهم الرشوة والفساد، مع وصمة عار تلاحقه إلى الأبد، علماً أن ذلك تحقق مع  ارتكابه جرائم الحرب والإبادة والمجاعة في غزة.

 

إطلاق العملية 

إذن، أطلقت إسرائيل في الأسبوع الثاني من آب/ أغسطس الجاري، النسخة الثانية من عملية “عربات جدعون” قبل الإعلان الرسمي عنها، وقبل إجازة “الكابينت” الأمني المصغر رسمياً للعملية التي تهدف إلى احتلال الجزء المتبقي من قطاع غزة، المتمثل بمدينة غزة  والمنطقة الوسطى البالغة مساحتهما 25 في المئة من القطاع.

في التمهيد للعملية، قرر جيش الاحتلال تجنيد قرابة 130 ألف جندي من عناصر الاحتياط، وأصدر الأوامر فعلياً لـ80 ألفاً منهم، علماً أن العملية التي ستستمر عدة شهور تلحظ تجنيد 250 ألفاً، وقد يرتفع العدد إلى 450  ألفاً لمحاصرة مدينة غزة التي تضم مليون نسمة، من مواطنيها والنازحين إليها من محافظة الشمال التي دُمّرت على نحوٍ كامل تقريباً (بلغت نسبة الدمار في بيت حانون 100 في المائة وفي بيت لاهيا 90 في المائة، أما في جباليا، فقد بلغت 80 في المائة) لإجبارهم على النزوح ثم التقدم تدريجياً إلى وسط المدينة وغربها، بعد أن بدأ اجتياح الأحياء الشرقية الجنوبية في حيي الزيتون وصبرة.

 

الأهداف المعلنة

تتمثل الأهداف المعلنة للنسخة الثانية بنزع سلاح حركة “حماس” واستعادة الأسرى، ونزع سلاح القطاع والسيطرة الأمنية عليه وإدارته من قبل حكومة لا تتبع لـ”حماس” ولا للسلطة الفلسطينية. 

هذه أهداف لا يمكن تحقيقها عسكرياً، بمعنى وجود مخاوف عالية من احتمال مقتل الأسرى الإسرائيليين أثناء العملية، وضياع الطريق إلى أماكن دفن الموتى منهم أو إلى أماكن إخفائهم. كما أن القضاء على “حماس” بما هي حركة مقاومة مستحيل، وبالحد الأدنى، لا يمكن تحقيقه بوسائل عسكرية؛ وإنما سياسية تتعلق بغزة والقضية الفلسطينية، بما في ذلك إدارة القطاع والحل النهائي العادل، وهي خيارات تتهرب حكومة نتنياهو منها بمنهجية، بهدف البقاء في السلطة إلى أبعد مدىً زمنيّ ممكن، وبالطبع تحقيق أعلى نسبة من القتل والدمار في غزة وأهلها.

ينقلنا ذلك مباشرة إلى الأهداف الخفية وغير المعلنة التي تتمثل بتوسيع دائرة الدمار، وإيقاع نكبة جديدة في قطاع غزة، وقتل وتدمير أكبر عدد ممكن من مواطنيه ومدنه وبناه التحتية ومقدراته. ومن هنا يمكن فهم التصريح الأخير لوزير الدفاع يسرائيل كاتس عن تحويل مدينة غزة إلى نسخة أخرى من بيت حانون ورفح، حيث بلغت نسبة التدمير فيهما مئة في المئة كما أظهرت صور الأقمار الصناعية الأخيرة.

 

فشل النسخة الثانية

ويجري الحديث في الإعلام العبري عن فشل النسخة الثانية من “عربات جدعون” في تحقيق أهدافها، لكن المعلنة فقط، وللأسف يجري اقتباس الأمر فلسطينياً وعربياً باحتفاء من دون التمعّن والتمحيص وقراءة الخلفيات والحيثيات، حيث أدت النسخة الأولى إلى تدمير قرابة 75 في المائة من القطاع، وتوسيع المنطقة العازلة، وتدمير ما تبقى من سلة غذائه، وإقامة محوري موراغ ومغن عوز، إضافة إلى نتساريم في الوسط وفيلادلفيا جنوباً ومفلاسيم شمالاً، وقبل ذلك وبعده وقوع 60 ألف مواطن فلسطيني بين قتيل ومصاب، وإجبار 800 ألف آخرين على النزوح،  وعليه كيف يمكن وصف ذلك بالفشل أقله من وجهة نظر الضحايا.

بالعموم، لا تتوقف إسرائيل عن القتل، ولا يمكن وصف ذلك بالفشل إلا استراتيجياً؛ لجهة العجز عن القضاء على الشعب الفلسطيني، وإزاحة قضيته العادلة عن جدول الأعمال العربي والدولي، برغم الإمعان في إبادة غزة عن بكرة أبيها، مع التذكير هنا بتصريحي وزير الزراعة، الجنرال أفي ديختر، بداية الحرب، ورئيس الاستخبارات العسكرية السابق الجنرال أهارون هليفا منذ أيام فقط، عن قتل 50 فلسطيني بمن فيهم أطفال ونساء مقابل كل قتيل إسرائيلي بعملية 7 أكتوبر، وإيقاع نكبة بالفلسطينيين كل فترة لتذكيرهم بموازين القوى وقدرات إسرائيل العسكرية.

في كل الأحوال، يجب عدم الوقوع في الاستلاب بما يقال في إسرائيل، مع التذكير بحقيقة أنَّ دمار قطاع غزة بالكامل لن يعيد الأسرى، ولن يقضي على حركة “حماس”، ولن ينقذ نتنياهو من مأزقه الداخلي، فضلاً عن حتمية إجراء الانتخابات قبل موعدها نهاية العام القادم، وتشكيل لجنة التحقيق في إخفاقات الحرب، مع التذكير كذلك بما قاله المعلق البارز في صحيفة “يديعوت أحرونوت” رون بن يشاي منذ بداية الحرب أيضاً، إذ رأى أن المصير النهائي لها مرتبط بالاتجاه العام بالدولة العبرية والاستقطاب والخلاف الحاد داخلها، لا بالضغوط الخارجية حتى الأميركية منها.

أخيراً ومن الزاوية الفلسطينية، وكما  قلنا عند النسخة الأولى من “عربات جدعون”، لا بد من تقليب كل حجر لمنع النسخة الثانية، ومهمة حماية غزة والبشر والحجر فيها مقدمة على المصالح  الفئوية والضيقة لأي تنظيم بغض النظر عن حجمه وشعبيته في الشارع.

عن المدن

 

شاركها.