أمد/ في شرم الشيخ اليوم، حيث اجتمعت الوفود لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، كان المشهد واضحًا بقدر ما كان صادمًا: الجميع يلعب دورًا، إلا محمود عباس.
رئيس السلطة الفلسطينية حضر القمة، لكنه لم يكن جزءًا منها. جسدٌ حاضر، وصوتٌ غائب.
لم يلقِ كلمة.
لم يوقّع على الاتفاق.
لم يقف على المنصة الرئيسية.
لم يُذكر اسمه في أي خطاب.
ولم تلاحقه عدسات المصورين كما اعتاد في مؤتمرات “الصورة التذكارية”.
كأنما اجتمع العالم حول قضية فلسطين، وقرّر أن يتحدّث عنها من دون الفلسطيني الرسمي.
من الصف الأول إلى الهامش
حين جاءت لحظة التقاط الصورة الجماعية، كان المشهد أكثر بلاغة من أي تصريح:
عباس في الصف الثاني، أقصى اليسار، في موقع أقرب إلى “الظل الدبلوماسي” منه إلى رأس كيانٍ يفترض أنه يمثل فلسطين.
ابتسامة باهتة، نظرات مشتّتة، ووقفة توحي بأن الرجل نفسه يدرك أنه بات جزءًا من ديكور القمم، لا من مضمونها.
ولم يكن الغياب عن الخطابات أقلّ قسوة. لم يوجّه أحد من القادة الكبار شكرًا له، لا تصريحًا ولا تلميحًا. بدا وكأنه حاضر في حدثٍ لا يعترف بوجوده.
بل حتى التغطية الإعلامية تجاهلته؛ لم تظهر صورٌ قريبة له، ولم يُذكر اسمه في نشرات الأخبار الأولى، وكأن الصحافة الدولية تبنّت الموقف السياسي ذاته: “عباس… خارج اللعبة”.
قمة بلا دور
في الوقت الذي كان يُنتظر فيه أن يظهر “رئيس فلسطين” في موقع القيادة، ليعلن موقفًا أو يفاوض أو يعترض على الأقل، اكتفى الرجل بالصمت المطبق، تمامًا كما اعتاد في اللحظات المفصلية.
صمتٌ مريب في لحظةٍ تتكلم فيها كل الأطراف، بما في ذلك الأطراف التي لا علاقة مباشرة لها بالحرب.
وفي الكواليس، تساءل كثيرون: ما الهدف من حضوره؟
هل جاء ليُسجّل “وجودًا شكليًا”؟
أم ليؤكد للعالم أن قرار فلسطين لم يعد في يده؟
مهما كان السبب، النتيجة واحدة: عباس لم يكن سوى ضيف مجاملة في مسرح الأحداث الكبرى، لا أكثر.
الغياب الحقيقي
الأغرب أن بعض الحاضرين أكّدوا أن عباس غاب عن بعض الفقرات الخاصة والاجتماعات الجانبية، ما جعل تساؤلات الدبلوماسيين تتضاعف:
هل انسحب احتجاجًا؟
أم اكتشف أن وجوده لا يغيّر شيئًا ففضّل الانسحاب بصمت؟
الراجح أنه لم يُدعَ إليها أساسًا.
من شاهد ما شافش حاجة إلى رئيس بلا ملف
صورة عباس في شرم الشيخ تختصر حال السلطة الفلسطينية اليوم: كيان رسمي فقد أدوات التأثير، يكتفي بالمشاركة في الصور الجماعية، ويغيب عن القرارات التي تخصّ مصير شعبه.
لقد تحول الرجل إلى ما يشبه “شاهد ما شافش حاجة” في السياسة الإقليمية، لا يُستشار، ولا يُنتظر منه موقف، ولا يُحسب حسابه في أي معادلة.
حتى المقارنة الساخرة أصبحت مؤلمة: عباس بدا في القمة كأنه رئيس أرمينيا أو رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جياني إنفانتينو — وجوه تُشاهد في اللقطات الجماعية فقط، لا علاقة لها بالحدث نفسه.
“شو بدك بهالروحة؟”
يبقى السؤال الشعبي البسيط، الأكثر اختصارًا ودقّة:
شو بدك بهالروحة يا أبو مازن؟
زعلت لتروح… وها هي النتيجة: كأنك ما كنت.
ربما كانت هذه المشاركة آخر فصل في رواية “الحضور الرمزي”، حيث يتحول من يفترض أنه صاحب القضية إلى تفصيل بروتوكولي، ينتظر ذكر اسمه لا أكثر.
لكن الرسالة التي خرجت من شرم الشيخ كانت أقوى من كل الكلمات:
فلسطين حاضرة… وعباس غائب.
بل لعل الغياب هذه المرة كان أبلغ من الحضور.