أمد/ لم تكن حرب الإبادة على غزة حدثًا منفصلًا عن مسار الصراع التاريخي في فلسطين، بل يمكن القول إن العامين الماضيين شكّلا ذروة النكبة المستمرة منذ عام 1948 — على الأقل حتى الآن.

ففي تلك السنة، احتلت “إسرائيل” معظم أرض فلسطين، وارتكبت مجازر واسعة بحق سكانها، وهجّرت الغالبية منهم قسرًا من مدنهم وقراهم. تحوّل هؤلاء إلى لاجئين في بقية أجزاء الوطن التي عُرفت لاحقًا بالضفة الغربية وقطاع غزة، أو في دول الجوار، خاصة سورية ولبنان والأردن.

لكن المشروع الاستعماري لم يتوقف عند حدود 1948؛ ففي عام 1967 استكمل الاحتلال سيطرته على ما تبقى من أرض فلسطين، وواصل تهجير السكان حتى من مخيمات اللاجئين التي كانت شاهدة على نكبتهم الأولى، فأعاد إنتاج المأساة داخل المأساة. ومع انطلاق الثورة الفلسطينية الحديثة، رفع الفلسطينيون شعار التحرير الكامل، ثم تقلّصت المطالب تدريجيًا تحت ضغط الواقع الإقليمي والدولي لتقتصر على إقامة دولة في حدود 1967، بعاصمة منقوصة في القدس.

ثم جاء اتفاق أوسلو، الذي قُدّم بوصفه طريقًا نحو الدولة خلال خمس سنوات، لكنه تحوّل كما توقّع معارضوه إلى أداة لتصفية القضية. فبشراكة أمريكية إسرائيلية، جرى تفريغ النضال الوطني من مضمونه، وتحويل قضية الحرية والاستقلال إلى ملفات حياتية وأمنية تُدار بالمقايضة والابتزاز. اكتشف الرئيس الراحل ذلك متأخرًا، ودفع حياته ثمنًا، لتدخل القضية الفلسطينية مرحلة جديدة من الانقسام الداخلي، وازدواجية التمثيل، وتآكل الخطاب الوطني، فكان الثمن دمًا ومعاناةً دفعها الشعب قبل أي طرف آخر.

تدحرجت الأحداث نحو مزيد من التشظي حتى جاءت عملية طوفان الأقصى، التي مثّلت منعطفًا حاسمًا؛ انقسم حولها الفلسطينيون بين مؤيد يرى فيها ضرورة تاريخية، ومعارض يحمّلها تبعات الكارثة الراهنة. إلا أن الاحتلال استغلّها لتنفيذ مخطط معدّ سلفًا، يستهدف تصفية القضية من بوابتها الأصعب: قطاع غزة. ومنذ أكتوبر 2023 يعيش القطاع حرب إبادة متواصلة، قُتل فيها عشرات الآلاف وهُجّر الملايين، وتُدمَّر يوميًا مقوّمات الحياة أمام أعين العالم وصمته، بينما تُعاد صياغة فلسطين مجددًا بالنار والدم، تحت رعاية الشريك الأمريكي.

بهذا المعنى، فإن العامين الأخيرين ليسا مجرد فصل جديد من الصراع، بل ذروة النكبة الممتدة على مدى سبعة وسبعين عامًا من الاحتلال، سبقتها سنوات الانتداب البريطاني الذي مهّد له ومنحه شرعيته.

قد يبدو المشهد الآن قاتمًا، وهو كذلك فعلًا؛ فالمأساة بلغت أقصى اتساعها، والنخبة السياسية الفلسطينية بلغت أدنى مستوياتها. ومع ذلك، تبقى الثقة راسخة بأن هذا الشعب، الذي لم ينكسر رغم المجازر والتجويع والحصار، لن يندثر، ولن يُطفئ حلمه بالحرية والاستقلال.

لكن الأمل هنا ليس شعارًا أجوف، بل دعوة إلى عمل دؤوب وإيمان عميق بأن نخبة جديدة ستولد من رحم الرماد، تطيح ببقايا الفساد والانهزام، وتبشّر بفجر قادم — قد يطول انتظاره، لكنه آتٍ، بهيًّا كما يليق بشعبٍ حمل نكبته، ولم يسقط.

شاركها.