أمد/ في مجتمعاتٍ تتعرض لضغوط متراكمة من الاستبداد، والتضليل، والجهل المنظم، تبرز ظاهرة خطيرة تتجاوز في ضررها حدود الفكر، لتمس جوهر وجود الإنسان وكرامته، وتفتك بسلامة المجتمع واستقرار الدولة، إنها ظاهرة تغييب العقل الجمعي النقدي. حين يُقصى التفكير الحر، ويُرهب السؤال، ويُكرَّس الإتباع الأعمى، تتحول الشعوب إلى أدوات في يد الدجالين، وتتحول الأوطان إلى مسارح للعبث والتسلط.

هذا المقال لا يكتفي بوصف الظاهرة، بل يدعو إلى تفكيكها وتحرير العقول، وبناء وعي جديد يعيد الاعتبار للإنسان، ويصون المجتمع من الانهيار، والدولة من التآكل من الداخل.

خاصة ونحن نعيش في زمنٍ تضخمت فيه وسائل الاتصال وتراجعت فيه أدوات التفكير، نشهد مشهدًا مأساويًا يتكرر في كثير من المجتمعات، الجاهل يتصدر، والعاقل يُقصى؛ الدجال يُصفق له، والمفكر يُخوَّن ويُسفَّه.

وكأننا أمام انقلابٍ قيميٍّ ومعرفيٍّ جعل تغييب الوعي النقدي فضيلة، وتشويه الفكر المستنير بطولة.

ليست المشكلة في وجود الجهل، فهو أمر طبيعي في أي مجتمع، ولكن الكارثة تكمن في ترسيخ الجهل وجعله أداة للهيمنة على العقول، وإقصاء كل خطاب عقلاني نقدي.

حينذاك، تُنتج المجتمعات ثقافة الخوف من السؤال، والرضوخ لمن يُجيد الصراخ أو التحريض أو الخطابة الخاوية.

لقد نجح المهرطقون، تحت عباءات الدين أو الوطنية أو المقاومة أو حتى التنوير الزائف، في ترهيب الناس ومصادرة التفكير الحر.

يُعاد إنتاج “الزعيم المعصوم” الذي يدّعي امتلاك الحقيقة، ويُقصي كل من يخالفه بوصفه مرتدًا، أو مشككًا، أو خائنًا.

إن أخطر ما في هذه الظاهرة أنها لا تنبع من السلطة وحدها، بل تُغذّى من داخل البنية المجتمعية نفسها: من التربية، والتعليم، والمنابر، ووسائل الإعلام. فتنشأ أجيالٌ تخاف من التفكير النقدي، وتجد في الاتباع الأعمى راحة ونجاة، ولو على حساب الحقيقة.

فمتى تنتهي هذه الظاهرة؟

متى يكف الناس عن عبادة الأشخاص ويعودون إلى احترام الأفكار؟

متى نرى المجتمع يحتفي بالعقل لا بالصوت العالي، وبالنقد لا بالولاء الأعمى؟

التحرر من هذا الواقع يبدأ من قرار فردي: أن أُعمل عقلي، أن أطرح الأسئلة، أن أجرؤ على التفكير خارج القطيع، وأن أتحمل كلفة الوعي.

فالعقل الجمعي لا يُحرَّر دفعة واحدة، بل عبر تراكم مبادرات الأفراد الشجعان الذين يضيئون الطريق وسط العتمة.

إن كسر هذه الحلقة الجهنمية لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى يقظة، وإرادة حقيقية لإعادة الاعتبار للعقل النقدي، ورفض تغييب الوعي لصالح الطاعة والانقياد.

وإلى أن يتحقق ذلك، سنظل ندفع الثمن: نُقصي العقول، ونُكرّس الجهل، ونترك الدجالين يتربعون على عرش الخرافة باسم الحقيقة.

شاركها.