طواحين بيروت أمد للإعلام

أمد/ ناقشنا في لقاء “منتدى حنا أبو حنا للكتاب” الحيفاوي الأخير (تأسس في كانون الثاني عام 2009) رواية “طواحين بيروت” للكاتب اللبناني توفيق يوسف عواد (269 صفحة، الناشر: مكتبة لبنان/ بيروت).
كتب أنسي الحاج في البدء: “هل تذكرون “الرغيف”؟ لا يزال توفيق عوّاد هو نفسه بعد ثلث قرن. بل هو اليوم أهمّ. لأنّه، بعد ثلث قرن، عاد يكتب لجيل اليوم وعن جيل اليوم رواية اليوم. الرواية التي لم يكتبها لهذا الجيل أحد سواه. عجيب توفيق، حسبناه دخل التاريخ، فإذا هو لا يزال يصنعه”. يا لها من شهادة مبدع بحقّ إبداع.
أخذني عنوان الرواية إلى الأديب الاسباني سابيدرا وروايته السرمديّة “دون كيخوتي”، حيث قاتل بطله عمالقة توهّمهم شياطين ومصادر للشر فلم يبالي بالتحذيرات، وحين رفعت تلك الطواحين أذرعتها في الفضاء طرحته أرضاً. وكما نعلم، لا طواحين في بيروت، وجاء ذكرها للمرة الأولى كطواحين بيروت المجعجعة “ولا أرى طحيناً” (ص. 117).
تصل تميمة نصّور، بطلة الرواية، ابنةِ قريةِ “المهديّةِ”، إلى بيروت من الجنوبِ اللبناني للدّراسةِ في دارِ المعلّمينَ والمعلّماتِ، وكذلك يأتي هاني من “دير المطلّ”، فغالبيّة أهل الريف يحلمون بالالتحاق ببيروت والعيش فيها، كلّ وأسبابه، ولكنه الحلم الذي يراود كل لبناني.
تزامنت أحداث الرواية مع انتفاضة باريس في شهر مايو 1968؛ حيث احتج الطلاب تزامناً مع الاحتجاجات الدولية ضد الحرب الأمريكية في فيتنام وغيرها وما نتج عنها من حرب باردة، ومحاولة ثوريّة لتغيير العالم، وصار شعار التغيير العالمي “كن واقعياً واحلم بالمستحيل”. وصلت ارتجاجات تلك الانتفاضة إلى بيروت، ليتأجج الصراع بين اليمينِ التقليدي واليسارِ الانفتاحي، بينَ القوى التّقليديّةِ الرّجعيّة ِممثّلة بجابر نصّور (شقيق تميمة) وحسين القمّوعي، وأكرم الجردي الّذي يركب الموجة مدّعياً حربه ضد الاقطاع لمصالحة الشخصيّة، وقوى التّغييرِ الشّبابيّةِ من كلّ الأطياف ممثّلة بهاني الماروني وتميمة الشيعيّة، ورمزي رعد، ممثّل شريحة المثقّفين.
يتناول الكاتب الصراع الطائفي والعلمانية، ومسألةِ الهويّة اللبنانية، هل هي عربيّة أم فينيقيّة، ومسألة الوجود الفدائي الفلسطيني في لبنان وأبعاده، والخطر الإسرائيلي الذي بات يهدّد الاستقرار اللبناني ويؤجّج الطائفية مذّاك.
تناول الكاتب الجنس وأثره وأبعاده؛ ممارسة الدّعارةِ (التقليديّة) ممثّلة بمدام روز الخوري، الدعارة (الموسميّة) ممثّلة برمزي رعد، المنظِّر المثاليّ والكاتبِ الذي يحمل راية الحريّةِ والتّحرّرِ، ليقيم العلاقة الجنسية مع تميمة العذريّة القادمة من الريف وتراه مثلها الأعلى وحلمها، تماماً كما نشاهد مراهقات اليوم ومثلهن الأعلى من المشاهير على أنواعهم، فنانين وأهل قلم ولاعبي كرة القدم، على سبيل المثال لا الحصر، والانتهازيين ممثّلين بأكرم الجردي البرجوازي الّذي يحاول احتواء تميمة عشيقة أخرى يضمّها إلى قائمة انتصاراته ومقتنياته، والحبِّ النقي الّذي يجمع تميمة بهاني رغم اختلاف الدين والعقيدة.
جاءت النهاية صادمة؛ يحاول تامر نصّور قتل أخته تميمة على خلفيّة شرف العائلة وغسل العار الذي ألحقته به، على حدّ فهمه، لتكون الضحيّة صديقتها ماري، تلك التي حاولت حمايتها والدفاع عنها، فتثور تميمة وتنخرط في العملِ الفدائيّ.
النهاية الفاضلة التي تمنّاها الكاتب هي الحبِّ الصادق المتمرّد بينَ تميمة (المسلمةِ الشّيعيّةِ) وهاني (المسيحيِّ المارونيّ)، رغم العنف الدموي والحرب الطائفية القادمة كالطوفان.
صوّر الكاتب شارع الحمرا البيروتيّ، على علّاته وتناقضاته، والتغييرات الاجتماعية والصراعات التي بدأت تظهر إبان الحرب الأهليّة اللبنانيّة التي أكلت الأخضر واليابس.
تناول الكاتب الصراع بين أهداف ثورة فعليّة يصطدم تحقيقها بمصالح مترسّخة وبأجهزة أقيمت لحماية تلك المصالح، “آكلة الجبنة في أي نظام قائم سيقاومون أي محاولة للتغيير الجذري، لأن التغيير يعني القضاء على امتيازاتهم وزعاماتهم وتهديد مصالحهم” (ص. 200). تناول المتناقضات في الشارع اللبناني؛ الشيء وعكسه، الحريّة والاستبداد، الانفتاح والانغلاق، تعايش الطوائف واصطدامها معاً، الترف والفقر معاً، العلم والجهل معاً، “بكلام آخر نحن مع الطائفيّة وضدّها، ومع الجهل وضدّه، ومع الزواج المدني يُعقد خارج أرض لبنان وضدّ وجوده داخله، مع المصارحة وضد نتائجها، مع الكذب وضدّه”.
كأني بالكاتب نبياً يصنع التاريخ، كما قال أنسي الحاج، تنبّأ بالربيع العربي سنوات كثيرة قبل حلوله؛ فالحرب الأهلية اللبنانية بدأت بحراك طلّابي اجتماعي ثوريّ يتوق إلى التحرّر من قيود بالية أكل عليها الدهر وشرب وتغيير ذلك الواقع المتكلّس فحوّلتها تيّارات دينيّة ركبت الموجة إلى حرب طائفيّة مسلّحة دامية أكلت الأخضر واليابس.
ويبقى السّؤالُ عالقاً؛ هل مفرَغ منه أن يتحوّلَ كل حراك اجتماعي أو طبقي إلى اقتتال ديني مدمّر يجهض تلك الثورة لتتحول طواحين بيروت وغيرها من طواحين البلدان العربيّة إلى كوابيس؟