أمد/ هنا غزة، حيث لا وقت للفرح العابر، وحيث يتكثف الحزن في تفاصيل الخيام، غادرت خيمتي مثقلًا بأخبار سياسية لا تهدأ، كلها متضاربة، متنافرة، تصيب الروح كما تفعل القذائف في الليل الطويل. جلست على الرصيف، أتأمله كمن ينتظر أن يمد له الطريق يدًا للنجاة. وجوه المارة رمادية، شفاههم مضمومة كأنها تحتفظ بندوب الكلمات، وكهولٌ كأن أعمارهم تقاس بعدد المحن لا بالسنوات.

صورة طفلًا يسحب جالون ماء أكبر من جسده، يتوقف كل مترين وكأنه يتفاوض مع الجاذبية، وجهه الصغير يسرد حكاية تعب لا يناسب سنّه. وصورة رجل ينادي على بضاعة بالكاد تغري الجوعى، يبيع عبر التطبيق البنكي بسعر مضاعف، مستغلًا شح السيولة وكأن الظروف سوقٌ لا يرحم، يقف كمن يساوم الحياة على أن تُبقيه في اللعبة. على جانب الطريق، صورة رجل مسن طال وقوفه، يريد أن يركب أي مواصلة، ولا يجد، يحدق في الشمس كأنها خصم يتمنى منه الرحيل، وبين يديه حقيبة فارغة لا تحمل أكثر من الانتظار. وصورة امرأة تمسك بكيس دقيق، تسأل عن سعره، الحيرة تأكل ملامح وجهها أكثر من الجوع، تحدق في البائع وكأنها تقرأ المصير في وزن الكيلو.

وصورة طفلة تجمع قصاصات الورق والنايلون في كيس فارغ، تسير ببطء في الشارع تجمع وسائل النار، فغياب غاز الطهي لم يترك لأهلها سوى إشعال ما تيسر. وصورة متسولة لا تشبه المتسولات، نظيفة الثياب، هادئة السؤال، تسأل عما يقتات به أطفالها الذين تركتهم في الخيمة يصارعون جوعًا لا يهدأ، بعد أن رحل أبيهم شهيدًا تاركًا صورة تتحدث أكثر من الكلام.

فجأة، صورة ضوضاء ركض رجال نحو المستشفى، يحملون صوتًا مرعبًا، فابنهم استقبل الموت في صدره، كان يلهث خلف المساعدات، فسبقته رصاصات الغدر. وصورة سيارة إسعاف بصوتها المعتاد تأكل الطريق لتصل إلى مكان قصف ليس ببعيد، لا تُثير رعبًا بل صارت كأحد معالم الحياة، تمر كالماء الذي لا يغسل شيئًا. وصورة طرابيش السوق متعبة، الزوار شحيحون، والنظرات مشتعلة بالجوع الذي لا يعترف بالكرامة، البائعون يتكئون على خيبة الأيام ويتكلمون مع الهواء. وبين كل تلك الصور، رأيت صديقًا قديمًا يمشي مثقلًا، دون أن يلتفت، استوقفته، نظر إليّ وقال: “أرجوك، لا تقل لي كيف حالك.” عندها فقط فهمت أن سؤالًا واحدًا قد ينهار فوقه جبلٌ من الصمت. عدت إلى خيمتي، عيناي تتجولان بين الخيام المتلاصقة، أتساءل كم من الصور تسكن داخلها، كم من القهر لم يُحكَ، كم من صبرٍ واحتراق. الصور لا تنتهي. هي الحياة هنا، صاخبة بالمرارة، نابضة بالصبر، مستمرة رغم كل شيء. هنا في غزة، ما بين الطريق والخيمة، تُكتب الروايات كل يوم، بلا حبر ولا ورق. نكتبها بالحياة نفسها، وما زالت الصور تنهمر، لا تستأذن أحدًا، ولا تخجل من الوجع.

شاركها.