صور إيمانية من مساجد الجزائر

إن مما يشرح الصدور ويسعد القلب هذه الصور الإيمانية الرائعة في بيوت الله في هذا الشهر الكريم، إذ تستعيد النفوس في طاعاتها صور الخشوع التي كنا نسمع عنها في حياة السلف الصالح، حين ينصرف المسلم بكل قلبه عن الدنيا وما فيها إلى الله تعالى وحده لا شريك له في ذلة وخضوع وانكسار.
تتجلى هذه الحقيقة في الصلاة، تلك العبادة العظيمة التي نعيشها بكل حواسنا، نناجي فيها ربنا، ونغسل بها أدراننا، ونريح بها خواطرنا، ونلتقي في ظلها بإخواننا، إنها جنة من الأمان والاطمئنان لا يعرفها إلا الخاشعون، ألم يقل الملك العليم: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}.
والصلوات مصارع الذنوب وبساتين الثواب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا، ما تقول ذلك؛ يُبقي من درنه؟” قالوا: لا يبقي من درنه شيئا، قال: “فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا” رواه الشيخان.
والصلوات منابر الوعظ ومرققات القلوب، ومفر الأفئدة، يقول الله تعالى: {إن الصلاة تنهى عنِ الفحشاء والمنكر}، وبها عمارة بيوت الله: {إنما يعمر مساجد الله من آَمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة”. وأهلها هم أهل الله وضيوفه وعباده: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبِح له فيها بالغدو والآَصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار * ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله”.
فما أحسن هذه البشائر وما أجملها وما أكملها.. إنهم ينالون أجور أفضل أعمالهم، ويزيدهم الكريم المنان من فضله، ويفتح لهم بابا من الأجر بغير حساب.
ولكن الصلاة ليست حركات تؤدى وألفاظا تردد فحسب، بل هي ما وراء ذلك من استسلام وخشوع وتذلل بين يدي الله تعالى، وإخلاص وإنابة ورغبة ورهبة تثيرها الآيات المرتلة، والأذكار المتلوة، في تدبر وتأمل، فينصرف منها المسلم وقد أثرت في قلبه وبدنه وجوارحه وسائر أحواله آثارا تبدو على وجهه ولسانه وجوارحه، ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، وقلة التكالب والحرص على الدنيا وعاجلها، قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، وحببت إليه لقاء الله ونفرته عن كل قاطع يقطعه عن الله، إذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه وحياة قلبه، فالصلاة نور لا يدركه إلا البصير، وراحة لا ينالها إلا المطمئن، وسياحة في ملكوت الله لا يؤتاها إلا الخاشع المنيب.
إن هذه الصورة الرائعة للصلاة يحرم منها من طلبوا اللذائذ في غيرها من سبل الحرام، فلا عجب أن يشعروا بأنهم في سجن يخنق الأضلاع إذا ما زاد مكثهم في المسجد ينتظرونها، وأن يضيقوا بها ذرعا إذا طالت شيئا ما، فإنهم كما وصفهم من خلقهم وهو اللطيف الخبير: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى}، وكأن لسان حالهم يقول: أرحنا منها يا إمام. بدلا من قول نبينا: “يا بلال أرحنا بالصلاة”.
وما نراه في رمضان من مشاهد الخشوع والإقبال في المساجد هو دليل إيمان وحب لله تعالى، وأوبة وإنابة إلى الرحيم الغفار، وإن كل من وُفّق لمثل هذه الصلاة وأحس بمعانيها لا ينبغي له أن يفرّط فيها بعد رمضان، بل ينبغي أن يعرف حال الخشوع الذي أحس بأثره في نفسه والذي كان قلبه مشغولا عنه، فيحاول أن يعيشه في جميع صلواته بعد رمضان.
*إمام مسجد الشّهداء بوروبة